د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
في سنٍ مبكرةٍ حفظنا «هوامش على دفتر النكسة» فرأيناه نصًا قصيرًا بطباعة أنيقة اجتذب - بين آخرين- مراهقًا في أول عقد عمره الثاني فلم يُعيِه حفظُه وترديدُه، وبقي مختَزَنًا في ذاكرة وعيه، وربما عدّه نجاءً له من معلقة «زهير» التي استظهر معظمَها وأُنسيها إذ لم يجد نفسَه مسترخيًا داخل خيمة، أو مستظلًا بمسار غيمة، أو عابئًا بعبسٍ وذبيان وداحس والغبراء، وإن أعلى مقام «هرِم بن سنان والحارثِ بن عوف» والشاعرِ المُزنيّ.
** نعى نزار قباني «اللغةَ القديمة، والكتبَ القديمة، وكلامَنا المثقوبَ كالأحذية القديمة، ونهايةَ الفكر الذي قاد إلى الهزيمة»، وأكمله بسبابٍ امتدَّ على مدى عشرين مقطعًا اختتمها بنداء الأطفال «سنابل الآمال» كما وصفهم.
** جاء النصُّ وليدَ اليأسِ والهزيمةِ النفسيةِ التي أعقبت نكبة عام 1967م بعدما غفا الشارعُ العربي - بخاصته وعامته - على أوهام القوة والتحدي، وليس أقسى من السقوط في القاع وقت انتظار الذُّرى.
** لا لومَ عليه ولا على أجيالٍ ودَّعت التفاؤل بنفسِها رغم نفيسها، واتجهت لمخاطبةِ النشء، ومعهم حق؛ فلمن شاء تغيير توجهٍ أن يركز على الشباب إذ سيُصدقُون ويُصفّقون لما يبلغُهم، وقد يُرَون الإنشائياتِ الوعظيةَ والشعريةَ والمؤدلجةَ مسلّماتٍ وإنجازات.
** بقيت «الهوامش»، وتاهت «أمُّ أوفى»، وظلّت أحكامُنا الشعوريةُ أقوى من محاكماتنا العقلية؛ ففي قصيدة «زهير» ثراءٌ معجميٌ واستلهامٌ تأريخيٌ وتميزٌ إبداعي، بينما لم تتجاوز قصيدة «نزار» منشورًا ثوريًا، استعدى واستدعى فوصف الداء ولم يستطب الدواء.
** اغترب في ذائقة صاحبكم نصٌ، ولم يُضْئِه آخَر، وكان حقُّ معلقة زهير الانتشار؛ فقد أعقب الحربَ والفرقةَ سلامٌ ووئامٌ، وحكمَ العقلُ فتدارك إفناء قبيلتين لهدفٍ عابث، والمسافةُ كبيرةٌ بين من ينشر النور ومن يبشر بالديجور.
** جاء النصّان توطئةً لحكايتنا مع التراث الذي شاء بعضُ مفكرينا إعلان القطيعة معه في رؤيةٍ معرفيةٍ لها ما يبررُها من أجل النأي عن الاستنساخ الثقافي المُفضي إلى تكرار الوجوهِ والحكاياتِ والمواقف، وآمن الأكثرون بقيمته المرجعية واستلهامه كما هو، وطالب سواهم بتنقيته وأخذِ أجمله ليبقى كتابا محمد عابد الجابري: (نحن والتراث) وطه عبدالرحمن: (تجديد المنهج في تقويم التراث)، اللذان اعتنقا توجهين مختلفين، من أهم الكتب في هذا الشأن.
** دعا «الجابري» إلى أن يكون التراث معاصرًا لنفسه ولنا؛ كي لا نتحول إلى كائناتٍ تراثية بدلًا من كائناتٍ لها تراث، في حين طالب «عبدُالرحمن» بالتخلص من الأحكام السابقة أو الجاهزة مما قد تُمليه أغراضٌ «لا تطلب الظفر بالحقيقة»، وناقش كلاهما المعقول الديني والمعقول العقلي؛ أيشتركان في أصلٍ معقوليٍ أعمَّ أم أن لكلٍ منهما معقولًا مستقلًا؟! وكان حوارًا ثريًا بين ثريَّين تقابلت فيه النظرة الشمولية الكليّة مع النظرة التجزيئية التفاضلية، و»زهير ونزار» - في هذا المقال - أنموذجٌ وواقعُنا نماذج.
** التفاضلُ نِحَل.