د. محمد بن يحيى الفال
لم يكن ذلك اليوم المتمثل في الرابع عشر من شهر فبراير من عام 1945 يومًا عاديًّا، بل كان يومًا اتضح لاحقًا أنه أسس لإحدى أهم العلاقات الاستراتيجية بين حليفَين في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو العالم الذي ما زالت فيه الولايات المتحدة تتبوأ فيه الصادرة بعد أن خرجت من الحرب منتصرة باقتدار، وكانت أهم أولوياتها بعد الحرب هي تهيئة العالم لما بعد الحرب، وذلك من خلال عقدها تحالفات مع أصدقائها وشركائها حول العالم.
ومن هذه التحالفات هو ما شهده اليوم المنوه عنه أعلاه؛ إذ اجتمع في البحيرات المرة بقناة السويس على ظهر البارجة الأمريكية يو.إس.إس كوينسي الزعيمان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- والرئيس الأمريكي الراحل فرانكلين ديلانو روزفلت. اللقاء التاريخي الذي جمع بين الحليفين استحق هذه التسمية بجدارة؛ فقد دار بين زعيمين، تشابهت الظروف السياسية المحيطة ببلديهما في أعقاب حرب كونية، خلفت الدمار، ولم تُبقِ ولم تذر، وهما أيضًا كان لهما دور محوري فيما تحقق لبلديهما من إنجازات تشبه المعجزات.
الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بفروسية وعبقرية سياسية منقطعة النظير، وحد غالب مساحة الجزيرة العربية في دولة واحدة، بسط فيها الملك الموحد بسرعة فائقة أسس النظام والأمن والعدل لدولة فتية، ستبهر العالم لاحقًا. الرئيس روزفلت أدار دفة الحكم في الولايات المتحدة أربع فترات رئاسية، تضعه كأول وآخر رئيس يتاح له مثل هذا التميز الذي استطاع من خلاله انتشال الولايات المتحدة من تداعيات الكساد العظيم الذي كاد يقضي على الاقتصاد الأمريكي، واستطاع روزفلت بسياسات اقتصادية ما زالت تدرس حتى اليوم في أعرق الجامعات العالمية ليس فقط إنعاش الاقتصاد الأمريكي، وإعادته للمنافسة الدولية، بل كذلك دخول بلاده الحرب مع الحلفاء ضد دول المحور بقيادة ألمانيا النازية واليابان، وخروج أمريكا من الحرب منتصرة. الزعيمان مما عُرف عنهما من حنكة سياسية ودراية في إدارة شؤون الحكم تفاهما على أهمية التحالفات في مواجهة المخاطر، وهو ما نتج منه تحالف استراتيجي منذ ذلك الحين بين كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية. لم تكن المصالح الاقتصادية فقط من وراء قوة التحالف بين البلدين، وذلك مع البدء في ضخ خام البترول بكميات تجارية من بئر الدمام رقم 7 بإدارة شركة الزيت العربية الأمريكية المعروفة الآن بشركة أرامكو، بل كانت مواجهة المخاطر الجيوسياسية في حسبان الزعيمين في لقائهما التاريخي. أثبتت الأحداث التي تلت الحرب العالمية الثانية صواب حدس الزعيمين، وجاء الخطر من الاتحاد السوفييتي المنتصر في الحرب بجانب الحلفاء، ولكن باختلاف الأيديولوجيات؛ فقد اتضح أن هناك خطرًا بدأت تتشكل بوادره، مرده شهية الجنرال جوزيف ستالين لضم أي مناطق يصل إليها جيشه الأحمر، أو من خلال الترويج للفكر الشيوعي في أنحاء المعمورة كافة.
رأينا كيف أن توجس روزفلت من خطر المد الشيوعي يتحقق في كوبا التي بسط على أراضيها الاتحاد السوفييتي صواريخ نووية، مرمى أهدافها الولايات المتحدة، ولا تبعد عن ولاية فلوريدا سوى مئات من الكيلومترات، تعد على أصابع اليد الواحدة، وهو الأمر الذي واجهه الرئيس الراحل كيندي بكل حزم؛ لتنتهي الأزمة التي كادت أن تتسبب بحرب عالمية.
المملكة هي الأخرى واجهت التمدد الأحمر الساعي للنفوذ في البحار الدافئة على خلفيات الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، ونتج عن ذلك خوض المملكة حربًا خاطفة هي حرب الوديعة مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي كانت تتولى السلطة في جنوب اليمن عن طريق حزبها الحاكم ذي التوجهات الشيوعية. أفغانستان هي الأخرى كانت محطة في غاية الأهمية في العلاقة السعودية - الأمريكية، وذلك في مواجهة الغزو السوفييتي لها، ونتج عن هذا التحالف الوثيق انسحاب القوات السوفييتية الغازية بعد حرب مقاومة ضروس، استمرت عشر سنوات.
الديباجة التاريخية السابقة ضرورية لفهم عمق التعاون بين كل من المملكة والولايات المتحدة الذي يعد - بحق - نموذجًا ناصعًا في التعاون بين الحلفاء والأصدقاء من أجل عالم مستقر وآمن.
ومع قول ذلك هناك من يحاول بين الفينة والأخرى تقويض أسس هذا التعاون، وذلك من خلال بعض المشرعين الأمريكيين في الكونجرس الأمريكي بغرفتيه (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) الذين تقودهم في غالب الأحوال أيديولوجيات حزبية ضيقة، أو جماعات ضغط، لا تريد في واقع الأمر استمرار العلاقات الاستراتيجية المتميزة بين البلدين، وذلك بافتعال قضايا هي إما تتعلق بمواضيع في الشأن الداخلي في المملكة التي هي شأن داخلي سيادي بادئ القول، أو من خلال ترهات البعض عن المأساة التي يتعرض لها المدنيون في اليمن الشقيق، وهو الأمر الذي يعرف القاصي والداني أن المملكة حاولت بالسبل المتاحة كافة تجنبه، ويقع اللوم عليه من الألف إلى الياء على عصابة الحوثي التي لا يوجد في فهمها السياسي أي تفهم لحقوق الإنسان أو حرص على رفع المعاناة عن اليمنيين. والشواهد والفرص التي أتيحت لهم لعقد سلام كثيرة، من جنيف التي رفض وفد العصابة الحضور لها إلا بعد مفاوضات عسيرة مع الأمم المتحدة، وانتهت برفضهم عروضها في ختام المحادثات، مرورًا بكل من محادثات الكويت التي استمرت أكثر من ثلاثة أشهر بين وفد الحكومة اليمنية الشرعية وجماعة الحوثي، وتلت ذلك محاولات عدة لإنهاء الحرب، منها اتفاق ستوكهولم الذي استبشر الجميع بأنه مؤشر إيجابي نحو سلام يحتاج إليه اليمنيون الذين يعانون أصلاً من قائمة من المشاكل لا حصر لها قبل نشوب الحرب، وكان آخر النوايا الحسنة الهادفة لكي تضع الحرب أوزارها هي مبادرة المملكة بإشراف الأمم المتحدة بوقف فوري لإطلاق النار، والبدء بمحادثات مباشرة بين أطراف النزاع، وتم رفض المبادرة حتى قبل البدء بمعرفة تفاصيلها كون عرابي الحوثيين من ملالي طهران أوعزوا لهم بذلك.
الغريب أنه بعد اطلاع العالم، ومنهم بعض نواب وشيوخ الكونجرس الأمريكي، على انتهاكات جماعة الحوثي، ورفضهم المتكرر للسلام، نراهم -للأسف- يرددون بضرورة إنهاء معاناة اليمنيين، وذلك عوضًا عن تحرك دولي شامل لفرض الحل السلمي وإنهاء المعاناة التي يتعرض لها الإخوة الأشقاء في اليمن، التي كانت الهاجس الأول للمملكة وقيادتها مع نشوب الحرب، ووضح ذلك للعالم جليًّا بإطلاقها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في سابقة تاريخية بقيام دولة، وقبل نشوب صراع مسلح بالاهتمام بما يجره الصراع على المدنيين من مآسٍ ومعاناة، وهما مصطلحان ليسا ضمن قاموس جماعة الحوثي.