عبدالوهاب الفايز
إلى وقت قريب كنا نظن أن نظرية القوة التقليدية لأهمية المكان في الجغرافيا السياسية تراجعت مع التطور الكبير في تكنولوجيا السلاح والنقل والاتصالات، وتطوير بدائل الطاقة الأحفورية.. إلا أن التطورات الأخيرة في المشهد العالمي تجدد أهمية المكان وأهمية الثروات الطبيعية.
الذي يثير الاهتمام، ويقدم الأسباب الموضوعية للترقب والحذر، هو تجدد الحيوية الكبيرة لمنطقتنا في الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر التي عززها وجود الثروات الطبيعية، بالذات النفط والغاز. هنا نترقب مجددًا: كيف ستكون سياساتنا ومواقفنا مع دخول أمريكا والصين في حرب باردة جديدة سوف يترتب عليها فرز للمواقف وانقسام بين فريقين؟ وهو نفس الموقف الذي انجرت إليه دول حوض جنوب بحر الصين ودول شرق آسيا؛ فالمنافسة الاقتصادية تجبرهما على الاختيار: مع الصين أم مع أمريكا؟ ولكل موقف ثمنه الكبير!
مخاوفنا تتجدد الآن، وتذكرنا بالاستنتاج الذي وصل إليه عالم الجغرافيا السياسية في العالم العربي جمال حمدان. ففي كتاب (دراسة في عبقرية المكان) الذي تناول فيه الجغرافيا السياسية لمصر تحدث عن الانقلاب الكبير الذي أحدثه شق قناة السويس في ميزان القوى السياسية للدول الكبرى حينئذ. وعندما قارن وضع القناة بالخليج العربي استنتج أن القوى العظمى نتيجة للحاجة الماسة لإمدادات الطاقة سوف تواجه (انسدادًا استراتيجيًّا)، بعكس الوضع مع قناة السويس؛ إذ تم تجاوز هذا المأزق، بل الاستفادة منه والصراع حوله.
إغلاق قناة السويس الذي نشهده الآن أمام الملاحة العالمية بسبب توقف ناقلة الشحن العملاقة، والاتفاق الصيني الإيراني للشراكة الاستراتيجية طويل المدى، أعادا إلى الواجهة التطبيقات العملية لأهمية الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط. وهذه المنطقة تعرف بـ(قلب العالم)، وقد أكد أهميتها الجغرافية عبر التاريخ المفكر الألماني ماكندر، أبو الجغرافيا السياسية، الذي يرى أن (من يسيطر على قلب العالم يسيطر على العالم)، أي إن القوى العظمى عبر التاريخ كان اهتمامها الكبير هو السيطرة على هذه المنطقة.
الصين كقوة عظمى صاعدة لديها ضعفها الاستراتيجي، وهو حاجة اقتصادها العملاق إلى استقرار إمدادات الطاقة، وإلى ممرات آمنة للتجارة، ومشروعها الكبير (الطريق والحزام) الذي عملت عليه في العشرين عامًا الماضية هدفه تجاوز هذا المأزق؛ لذا سعت إلى بناء قوتها البحرية، واستكملت بناء استراتيجية أمنها القومي بعد تأمين ظهرها الشمالي باتفاقيات وتحالفات مع روسيا ومع بقية جيرانها، وبنت قوة بحرية توازي أو تتفوق على القوة الأمريكية بالذات في منطقة الباسيفيك.
جمال حمدان يرى أن الصراع على موارد الطاقة في الخليج العربي يهيئ الأسباب لـ(حرب عالمية ثالثة)، ودخول الصين بمشروع شراكة واسعة مع إيران، وبناء قاعدة عسكرية في المياه الدافئة، يرفعان احتمالات المواجهة، ويضعان المنطقة على صفيح ساخن، وسيكون نظام الملالي الإيراني المستفيد الأكبر!
اتفاق الشراكة الاستراتيجية والاقتصادية لمدة 25 عامًا بين الصين وإيران تم التوقيع عليه السبت الماضي في طهران، وتقدر قيمته بمئات المليارات من الدولارات. فالصين يهمها بصورة أساسية الموقع المتميز لإيران بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ويهمها وفرة مواردها من النفط والغاز الطبيعي، وتتطلع إلى توسيع حصة صادراتها إلى إيران التي يبلغ سكانها 83 مليون نسمة، ويشكلون مستهلكين محتملين. وإذا تمكنت من تقوية نفوذها في باكستان، واستثمرت فشل السياسة الأمريكية في أفغانستان، فسوف توجد منطقة جغرافية اقتصادية جديدة، يستفيد منها جمهوريات وسط آسيا، وتمتد من مياه الخليج العربي إلى حدود الصين، أي تحقق نظرية ماكندر حول قلب العالم.
ماذا تعني لنا هذه التطورات الجديدة، سياسيًّا واقتصاديًّا؟ وكيف سيكون الموقف الصيني من المشروع الإيراني التخريبي في المنطقة؟ هل هذه الشراكة سوف تجعل الصين حامية سياسية لإيران في المنظمات الدولية، بالذات في مجلس الأمن؟ هل هذه الشراكة خطوة (تكتيكية مرحلية) صينية لخلط الأوراق على أمريكا في المنطقة، أي لن تكون شراكة استراتيجية مكتملة وسهلة التحقق؟
هذه الأسئلة ستبقى معلقة، وربما لن تجد الإجابات الدقيقة.. لكن الذي يهمنا هو الإجابة الصادقة عن سؤال واحد: ما هو موقف دول مجلس التعاون من هذه التطورات؟ هل ستكون في موقف واحد تجاه التهديدات لأمنها القومي؟ هل نستطيع (عدم الانحياز) والوقوف في مسافة واحدة بين المتصارعين على المنطقة؟ وهل هناك مكاسب إيجابية نستطيع الخروج بها من هذا التحدي الكبير لأمننا الإقليمي؟
لمواجهة هذه الاحتمالات، ولتجنب المنطقة الدخول في الصراع المحتمل، وللحفاظ على مكتسبات الاستقرار ومواصلة البناء.. نتطلع إلى حكمة القيادات السياسية، وقدرتها على جمع الكلمة، والتزامها بالعقد الاجتماعي مع شعوبها.