د. فهد بن أحمد النغيمش
في الجغرافيا هناك دول يُطلق عليها مصطلح «الدولة الحبيسة» وهي التي تحيط بها اليابسة من كل جانب، ولا يوجد لها أي منافذ بحرية، وفي عالم الأفكار، هناك عقول حبيسة، لا تتصل بأي أفكار إبداعية تحاول أن تفكر تفكيراً مغايراً ينتج من خلاله فكرة لم يسبقه إليها أحد وإنما جل اهتمامات البعض المضي على خطى من سبقه معززاً لفكرة أنا مسير ولست مخيراً في التفكير!
قد تكون أساليب التربية في بيئات معينة منتجة للثقافة المحدودة والتفكير داخل الصندوق إذ يعتمد البعض على تطبيق العادات والتقاليد وبعض الأيديولوجيات التي تقضي على الإبداع والابتكار. وكلما كان الإنسان محاصراً بتلك الأفكار، عجز عن الإبداع والخروج بأفكار جديدة غير مألوفة أو ما يعرف بالتفكير «خارج الصندوق».
الحقيقة أن جمود التفكير وعدم محاولة التفكير خارج الصندوق من السلبيات الكبرى التي تصيب العقل وتجعله متحجرا وذا قدرة كليلة في الإدراك والفهم، وهي أمراض حذر منها القرآن الكريم، داعيا الإنسان إلى إعمال عقله، وتجديد أفكاره باستمرار {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}.
وفي القرآن الكريم جاء نداء {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ} في أربع مواضع، وأعقبها في ثلاث منها بقوله {فَانظُرُوا} وجاءت الرابعة بقوله: {ثُمَّ انظُرُواْ} لتؤكد أهمية اللجوء الدائم إلى التفكير، وتجديد طرائقه ووسائله من خلال التفاعل الدائم مع واقع الحياة من خلال منهج واضح، لذا كان الاقتران بين السير وبين النظر، وهو التفكير المنطلق من منهجية مقارنة.
شارلز هولاند دويل (مفوض الولايات المتحدة للبراءات والعلامات التجارية) قال ذات مرة «كل شيء كان من الممكن اختراعه فقد تم اختراعه» هذه المقولة بالضبط ما يعنيه التفكير داخل الصندوق، وستتعجب أكثر عندما تعلم أنه قالها عام 1899م عندها كان لا يزال الناس يستخدمون الخيل والقطارات البخارية للتنقل، وقبل اختراع السيارات والطائرات بأمدٍ بعيد.
كثيرة هي القصص التي نجحت وبرعت في حل المشكلات بطريقة التفكير الخلاَّق «التفكير خارج الصندوق».
مسيرة الإنسان في الحياة تُكون حافلة بالاكتشافات والابداعات طالما غير أفكاره وعدلها؛ بل تخلى عنها، وانتقل إلى نقيضها، ولهذا كان كثير من المفكرين يحذرون من أن تتحول الأفكار في الدماغ إلى كتل صخرية مستقرة في قاعه تثقله وتعيقه عن الإبداع والانطلاق المتكرر في الحياة، وهو معنى أكد عليه الكاتب الأمريكي «بول أوستر»، بقوله: «لا شيء يدوم، ولا حتى الأفكار التي في رأسك، وينبغي ألا تهدر وقتك في البحث عنها، فعندما تختفي، تكون تلك نهايتها»، أو كما أكد الأديب «توفيق الحكيم»: «إن لكل جيل أفكاره كما أن لكل عصر ثيابه، الأفكار كورق الشجر تتساقط فى كل خريف».
والعقل الذي لا يقيد أفكاره في فكرة بعينها يكون حرا طليقًا قادرًا على الوصول إلى الابداع والابتكار والاكتشاف بسهولة؛ بل تحرضه متغيرات الحياة على البحث عن الأفكار الصالحة لحياته في لحظة ما، فبعض الأفكار تشبه الأغذية لها مدة صلاحية، وإذا أصر الشخص على تناول طعام معين انتهت مدة صلاحيته، فإنه يعرض حياته للخطر! واقترب «عباس محمود العقاد» من المعنى أكثر في كتابه «التفكير فريضة إسلامية» فقال: «إن العقل الإنساني لا يصاب بآفة أضر له من الجمود على صورة واحدة يمتنع عنده كل ما عداها»، لهذا كان يطالب الروائي «فرانك أوتلو» بأن تهتم بأفكارك، فيقول: «راقب أفكارك، لأنها ستصبح أفعالاً، راقب أفعالك، لأنها ستصبح عادات، راقب طباعك لأنها ستحدد مصيرك».
لذ لا بد للعقل البشري أن يكسر حاجز التقاليد ويحلق في أفق الاكتشاف والإبداع بدلا من الركود والتسليم للأفكار الروتينية التي سأم الناس منها وأصبحت روتينا مملا ويجلب السأم مع الأخذ في الاعتبار بأن ذلكم التحليق لا بد له أن يكون في حدود العقل والدين أما التقاليد فهي سجن مخيف، يقول العلامة «ابن خلدون»: «اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل إن الأحياء أموات»، فتحول التقاليد إلى قيود على العقل كارثة كبرى للواقع والمستقبل.
«جوستاف لوبون» في كتابه «سيكولوجيا الجماهير» لمس تأثير التقاليد على الأفكار ببراعة، ولخص تأثيرها في كثير من الحضارات، فقال: «الواقع أن أكبر همّين للإنسان منذ أن وُجد على سطح هذه الأرض كانا يتمثلان في خلق شبكة من التقاليد أولا، ثم في تدميرها عندما تكون آثارها الإيجابية قد استُنفذت، وبدون تقاليد ثابتة لا يمكن أن توجد حضارة، وبدون الإزالة البطيئة والتدريجية لهذه التقاليد لا يمكن أن يوجد تقدم، والصعوبة تكمن في إيجاد توازن بين الثبات والتحول».
نحتاج إلى أن نعيد صياغة تفكيرنا وتعاملنا مع الكثير من المعطيات في حياتنا اليومية وكسر بوتقة التحليق قرب أرنبة الأنف حتى يكون لدينا أفكار إبداعية غير مسبوقة وحتى نصل إلى جيل يفكر تفكير إبداعي أو ما يسمى بالتفكير خارج الصندوق لا يكون محدوداً أو مشروطاً بأشياء تحكمه سواء داخل المنطق أو خارجه، يمكن توجيه التفكير نحو أي فكرة منطقية أو غير منطقية وقابلة للتطبيق مع وضع احتمالات لعدم النجاح أو عدم اكتمال الفكرة وضرورة تطويرها بشكل مختلف، لذا يجب دائماً وضع خطط بديلة وحلول مقترحة سريعة، لتعويض الوقت والخروج بأفكار أكثر إبداعاً.