القصة عند عبد الله باخشوين أنيقة ونادرة الشبه، لا تجد نصوصاً كثيرة تشبه نص باخشوين، القصة لديه مضفرة بإتقان شديد، تدخل معه النص وأنت تسمع دقات قلب الورقة -كما تقول فوزية أبو خالد في إحدى قصائدها - تقرأه وأنت مستعد لمفاجأة قادمة، يستيقظ النص مع باخشوين بلياقة شديدة، وينتهي وأنت لا تريده أن ينتهي! تظل معلق القلب ببعض النص وتقول ربما ما زال هناك بقية (يقظة مبكرة والحفلة وموت أيوب) ما زلت أقرأ هذه القصص وآمل ألا ينتهي النص، حيث انتهى في المرة السابقة! لكنه ينتهي وأمنيتي لم تتحقق بعد! وذلك نجاح للكاتب، قلة من النصوص التي تنهيها وأنت تقول لماذا انتهت! ما كان ينبغي أن تنتهي هنا! لا لخطأ سردي ارتكبه القاص، بل لأن النص فتح شهيتك ولم يشبعك، عبأك بالأسئلة ولم يمنحك إجابة، أطلقك في فضاء جديد ولم يرشدك.
ولأنه كان أبي العاقل كنت أكتب له الرسائل وأتلقى منه الردود منذ بدأت الكتابة، ليس في شأن الكتابة وحدها بل في شأن الحياة بشكل عام، وحكاية الرسائل في زمن الثمانينات حكاية جميلة لا أظن كثيرين عبروها كما عبرها كتاب تلك الفترة، الرسائل الورقية المكتوبة بخط اليد، خط جميل وأنيق وخط سيء وبالكاد يقرأ، خط مكتوب على ورق أصفر مسطر وخط مكتوب على ورق أبيض بدون سطور.
خط باخشوين يمتلك أناقة جميلة حتى يتعمق عندها عليك أن تتأوله لتفهم، انه نوع من الانثيال الذي تشعر بانفعاله وأنت تقرأ، يكتبه دائماً على ورق أصفر مسطر، حاد وصارخ في لغته ومعناه.
ربتطني بباخشوين علاقة مميزة جدا، امتدت سنين طويلة، كانت بيننا مراسلات عميقة حول الكتابة والإبداع والحياة بشكل عام، في زمن كانت الرسائل الخطية هي الوسيلة، ولست وحدي في ذلك بل جيل بأكمله تعايش مع صناديق البريد وانتظر بلهفة كومة من الورق، كانت نمطا دارجا ومقبولا في التواصل، وهي في جلها تدور حول الكتابة والنصوص، محاولة بسيطة لاستجلاء الآخر الذي يكتب وينشر ولا نعرف عنه شيئا، ولم يكن ثمة وسيلة لتلك المعرفة إلا بالرسائل الورقية.
علاقتي بباخشوين كان مميزة أكثر، كان أقرب إلى أن يكون المعلم الروحي الذي يسديني النصح في شؤون كثيرة في الكتابة والحياة، قد تكون غير مفهومة من كثيرين لكنها مفهومة بالنسبة لي وبالنسبة لأسرتي.
وعندما ارتبطت أيضاً كان باخشوين حاضرا في الصورة، صديق لا يمكن التفريط به، عرف أولادي منذ صغرهم وعرفوه أيضاً كصديق الأسرة الذي لا يمكن أن يكون في الرياض ولا يكون منزلنا مقصده، وكذلك نفعل نحن عندما نسافر جدة.
تمر سنوات لا نلتقي ولا نتحدث، لكن عندما يحدث أمر ما يستدعي التواصل فباخشوين هو المقصد، الجميل أن مرور السنوات لا يغير شيئا في طبيعة هذه العلاقة، ليس هناك جفوة بعد البعد ولا استئناس مفتعل، أشبه ما يكون بحديث انقطع ثم عدنا واستأنفناه من حيث انتهى.
لا يعتب ولا أعتب أنا، المكان محفوظ في القلب والذاكرة وغير ذلك ليس مهما.. هذه العلاقة النادرة والمختلفة مصدر بهجة لي لأنها تقول إن الرجل والمرأة يمكن أن يكونا أصدقاء رائعين بدون أوهام الجندر.
أول أمسية لي كانت في نادي جيزان عن طريق باخشوين، أول رواية لي (عيون الثعالب) كان باخشوين محررها الأول، حذفت مقاطع منها وأضفت أخرى بناء على مشورته، كتب لي على غلافها الأخير وعندما أصدر روايته الأولى (سلطان سلطانة) قمت بنفس الدور وكتبت له على غلافها الأخير، لم تكن المسألة مرتبة ولا مخططاً لها، أتت بعفوية من كلينا.
كان عبد الله باخشوين دهشتي الأولى في عالم القصة، يمتلك باخشوين لغة مضفرة بالحزن، شديدة العمق، كنت مأخوذة بمجموعته الحفلة، بكل قصصها، دخلت حفلته ولم أخرج منها بعد، أحببت أيوب وآلمني مصيره، فهمت كيف يمكن أن يكون (الأصدقاء) كابوساً، شعرت قبل البطل بالهواء وهو يفضح عريه في (يقظة مبكرة).
** **
- الروائية ليلى الأحيدب