عبده الأسمري
تمضي الأيام من أعمارنا، وتستهلك من أوقاتنا، وترسم دوائر الحنين لماضٍ فائت، والأنين لمستقبل قادم، ونحن زائرون في ضيافة دنيوية مؤقتة، لا نلبث حتى نغادر عبر قوافل رحيل لا تستثني أحدًا، ولا تُبقي فردًا، ويبقى الله خير الوارثين، خلق الإنسان وهداه النجدين، وألهمه الوعدين، ما بين جنة عرضها السماوات والأرض، ونار وقودها الناس والحجارة.
نمضي سائرين بين محطات عمر نتأرجح فيها وسط فرح ينقلنا إلى سعادة لا تدوم، وحزن يهزمنا في شقاوة لا تبقى.. يغرينا غرور الذات فنعتز بأنفس ضعيفة، تُسقطها العثرات، وتكسرها العبرات؛ فنرتمي في أحضان ندم، يعيدنا إلى سيرتنا الأولى التي كان العدم عنوانها الأول، والانعدام مصيرها الأخير.
نلتفت إلى أيام مضت بين حنين يشوبه ندم على ضياع اختياري، أو انصياع إجباري في موجات حسنات وسيئات، ترسم مصائر أزمنة لاحقة، نظل فيها حائرين بين أنين زائل بقوة الصبر، ويقين جائل بسطوة العبر، فننتقل بين ضمائر متصلة بحكم العرفان، وأخرى منفصلة باحتكام النكران، فتأتي اختبارات الثبات أو التغير في منظومة عيش لا تقبل القسمة إلا على أعداد صحيحة من الاعتراف، وأرقام ناتجة من الإنصاف.
يظل الإنسان المخلوق الأوحد المقترن بالسلوك والمقارن بالنتائج في مسالك يحكمها العقل، وينتجها المنطق، ويؤكدها الواقع.. فتبقى الأجيال تحاكي الوقائع من عمق التاريخ وفي أفق الحقائق؛ ليبقى صاحب الأثر وجهًا أصيلاً، لا تغيّره معالم التغير، ولا تشوهه أمواج التغيير.
في حياة كل إنسان تجربة أو مجموعة تجارب، والحصيف من وضعها في إطارات من التعلم، وحدود من التقيد، ومسارات من النفع، فإن حضر الفشل فيها كانت مرحلة أولى، تنتظر التجاوز، وإن طغى النجاح فيها ظلت محطة مثلى، تقتضي الإنجاز، ومن أراد أن يكون مؤثرًا فلا بد من دفع الثمن من ضريبة العمر بوسائل الثبات وغايات الإثبات،
تأخذنا أوجاع الفقد وألم المرض وأحزان الرحيل إلى متاهات من الوجع، وتبقينا في آهات من الكبد،
تمتلئ المدامع، وتكثر المواجع، وتبكي المهاجع، فتأتي رحمة الرحمن لتواسي غمة الإنسان، ويحل السلوان في نعمة ربانية؛ لتصنع الاطمئنان في مكرمة إلهية، تنقل الإنسان بعزيمة الرضا إلى هزيمة اليأس باقتدار الاحتساب، واعتبار الجواب في امتحان ينجح فيه الصابرون، ويسقط فيها القانطون.
منذ ذلك اليوم الأول الذي تعلمنا فيه ألف وباء الكتابة، وانتفعنا خلاله بحرف ونداء القراءة، ونحن في رحلة تعلم لا تتوقف، زادها الدوافع، ومجدها المنافع، فنبقى في إطارين من المداومة على جني ثمار النفع، أو الغفلة عن كسب استثمار الوضع، فيبقى الكبار مقيمين في متون البحوث، ساكنين في مرابع الفوائد، ينصبون شباك أفكارهم في درب النقاش، وفي طريق البحث لاصطياد الجديد وانتظار التجديد حتى يضيفوا للبشرية رصيدًا مديدًا من الإبداع، وصيدًا جديدًا من الاختراع.
تتحول المواقف في الحياة إلى عبر، تصنع الصبر، وتصيغ الاعتبار، وتنتج الإلهام، وترصد المهام، وترفع الهمم نحو اكتشاف يرسم الفرق، ويؤكد الفارق، سواء في حياة الإنسان أو محيطه، أو وسط مجتمع ينتظر المجد المشفوع بالجد الذي يجعل الاحترام هدية إجبارية للعقول النيرة، والتقدير بشرى حتمية للأفكار المضيئة التي تعكس قوة الفكر البشري وقدرته على إمداد الحياة، وإسعاد البشر بكل ما يرصد إجادة التفكير، وإفادة التدبير للكائن البشري القادر على رسم خرائط ذهنية، تنفع البشرية، وترتقي بالإنسانية.
الإنسان قادر على تحويل العِبر إلى أدوات اعتبار، تحفظ الإنسان من مكائد العقبات ومصائد العواقب، وتنقله إلى منصات التأثير في قلب الذكر المقرون بالمآثر وقالب الشكر المقترن بالمناقب.
الحياة قصيرة، لا ترتهن إلى هامشية الكلام، ولا ترتكن إلى ضبابية الحديث، إنما تبقى البصمات جلية لمن ارتبط اسمه بإضاءة عتمات الجهل، وترابط وجوده بكفاءة إمضاءات الفضل.
فالناجحون يبقون في الجانب المشرق من الذاكرة، والمؤثرون يظلون في الجزء الأشرق من الاستذكار،
هم من يقال عنهم مرُّوا من هنا، وتركوا عبير الاعتبار في معاني الفكر، وأبقوا تقدير الانتصار في معالم المعارف.