زخرت طيبة الطيبة في الزمن السالف وما زالت بكوكبة من العلماء وطلاب العلم ومريديه، رجال كانوا رواد علم وفكر ودين وأدب، ومن هؤلاء الأفذاذ النبغاء النبهاء انشق السيد حمزة بن إبراهيم غوث الذي تنقلت به المناصب ما بين إدارية وسياسية وصحفية، وكان السيد «حمزة غوث» قد تلقى علومه الدينية من حلقات التعليم والتدريس في الحرم النبوي على يد معلمين أكفاء كان من بينهم الشيخ (محمد العمري)، والشيخ (عبدالحافظ المصري) والشيخ (عبدالقادر الطرابلسي) رحمة الله عليهم أجمعين، وقد تخرج على أيديهم زمرة من العلماء اللامعين، والوجهاء المخلصين وبادئ ذي بدء يجدر بنا الإشارة إلى مولد الشيخ حمزة غوث فقد ولد في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في عام 1397هـ، وفي رواية أخرى 1300هـ وهو السيد حمزة بن إبراهيم بن عبدالكريم غوث الحسني الهاشمي، تزوج -عليه وابل الغفران- من عدة نساء كانت أم السعد ابنة الشيخ محمد سعيد حواله، وبعدها تزوج من ثماني زوجات، وقد رزق من بعضهن بذرية صالحة.
نشأ السيد حمزة غوث في مكمن آبائه طيبة الطيبة، وحصل على كل من الشهادة الابتدائية، والأخرى الإعدادية من المدرسة الرشيدية، وتلقى تعليمه الديني من علماء أكابر وعرف عنه قوة الشخصية ودماثه الخلق وشدة التواضع، وحسن الهندام، ومجالسة الكبار المشار إليهم بالبنان، وكان يتقن اللغة التركية وله فيها اطلاع واسع، وإلمام ذائع، وأول أعمال السياسية الإسهام في انتفاضة أهل المدينة المنورة ضد المحافظ التركي الأصل عثمان فريد باشا، كما كان له موقف ناشط في خدمة الشئون العامة في المدينة المنورة، وكانت المرحلة العلمية الذهبية لانخراطه في خدمة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أسند إليه فخري باشا مهمة تأسيس جريدة الحجاز ورئاسة بلدية المدينة المنورة وكانت هذه الفترة الذهبية بمثابة الدهليز الأول الرحب إلى غمار العمل السياسي وكان له مناوئون ومقربون من أمثال الشريف الحسين بن علي والانجليز وأتاتورك وابن رشيد أمير حائل، والملك عبدالعزيز -طيب الله ذكره- سلطان نجد وملحقاتها الذي كان محباً له ومقربه إليه. وحينما زار الملك عبدالعزيز آل سعود المدينة المنورة لأول مرة، وكان ذلك أواخر ربيع الآخر المنصرم من عام 1345هـ بعد أن أقام بها أياماً عدة، وشهرين تامين أبقاه في المدينة معاونه ونائبه لثلاثة من أمرائها وهم إبراهيم السبهان، ومشاري بن جلوي وعبدالعزيز بن إبراهيم عضو في مجلس الشورى، وظل السيد حمزة معاوناً لأمراء المدينة المنورة منذ مجيئه بمعية الأمير محمد بن عبدالعزيز لتسلمها، وحتى صدر الأمر الملكي في 3 - 5 - 1349هـ الذي يقضي بتعيينه عضواً في مجلس الشورى حيث كان تاريخ مباشرة عمله في 5 - 5 - 1349هـ وبعد أن أمضي السنوات النظامية في عضويته انتقل إلى وظيفته السياسية وهي كونه مستشاراً للملك عبدالعزيز وكان ذلك في مدينة الرياض.
ومن هيئة المستشارين بديوان الملك عبدالعزيز انتقل إلى السلك الدبلوماسي كقنصل عام ووزير مفوض، ومندوب فوق العادة للملك عبدالعزيز في العراق ويذكر الكاتب الفاضل خالد بن حمزه غوث في مؤلف له اسماه (رجال من المدينة المنورة - السيد حمزة بن إبراهيم غوث) حديثاً ذاتياً للمترجم له، جاء فيه القول الثاني: (بينما كنت في معية الملك عبدالعزيز في أول رحلة له -رحمه الله- بالطائرة التي أهداها إليه) (فرانكلين روزفلت) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، إذا به يستدعيني إلى حيث يجلس في مقدمة الطائرة وقال لي: لقد قررت تعيينك سفيراً في إيران فما قولك؟ وكانت مفاجأة إن لم تكن صدمة بالنسبة لي فأجبته: ما تقرره طال عمرك خير وبركة إن شاء الله، ولكنني في واقع الأمر أفضل أن أعمل قريباً منك يا طويل العمر وأكمل:
أعدك أن تكون معنا في الرياض ثلاثة أشهر في كل عام، وثلاثة أشهر في المدينة، وستة أشهر في إيران فصمت ثم أردف قائلا: إنك تعلم أن علاقتنا بإيران مقطوعة بعد الأحداث، إلي أنت خابر والآن وبعد انتهاء الحرب من مصلحة الجميع أن تعود العلاقات بيننا وبينهم، ثم أنا عندما اخترتك سفيراً في إيران لأسباب لا تخفى عليك منها أنك سيد، واسمك حمزة، ومن المدينة، والإيرانيون يهتمون بذلك، ولهذه الأسباب مجتمعة وقع اختياري عليك، فماذا تقول؟ فأجبته -رحمه الله- أن الأمر لله ثم لك في كل الأحوال، ولقد كرمتني، أطال الله بقاءك، وبألا ينقطع عملي بالقرب منك ثلاثة أشهر في كل عام.
ومن آرائه في الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - ما جاء على لسانه قائلا: (لم يكن عبدالعزيز منتقماً أو شامتاً أو عنيداً في غير الحق، أو ذا مآرب شخصية، بل كان واقعياً مترفقاً متسامحاً وكريماً حتى مع خصومه، وكان - رحمه الله - لا يقدم على عمل جلل إلا بعد أن يمضي آناء الليل مصلياً متعبداً خاشعاً مستخيراً، كان زعيماً يخشى الله في سره وعلانيته، إضافة إلى مواقفه التاريخية مما جعلني احترمه وأعجب به، وأنذر نفسي لخدمة أهدافه ومبادئه السياسية، فقد عشت معه أيام السلم كما في أيام الحرب قريباً منه، وكان يشرفني بأنه كان غالباً ما يأمر بوضع خيمتي أمام خيمته في معظم الرحلات التي رافقته فيها في رضاه كما في غضبه، فكنت على مرأى ومسمع منه، إذا ما عنّ له أن يستدعيني نهاراً أو ليلاً ولفترات طويلة قبل دخول الحجاز وبعده، وقد أمرني ذات مرة في إحدى غضباته على ألا أغادر خيمتي، وقد دامت غضبته تلك لأكثر من عشرين يوماً، وكانت خلالها الاتصالات بيننا تتم عن طريق المكاتبة فقط بناء على أمره، وذلك بعد استلام مكة إثر وشاية من أحد مستشاريه ضدي ملخصها: أن كانت لي اتصالات بأعيان مكة أمثال السيد الشيبي والسيد صالح شطا وغيرهما لتأليبهم ضده، وما علم ذلك الزميل متانة ونوع الصداقة التي كانت تربطني بهم منذ العهد العثماني سامحه الله، إلى أن ضقت ذرعاً بذلك السجن المنفرد في خيمتي، وطلبت منه إطلاق سراحي أو محاكمتي أو الأمر بإعدامي، لقد شاء الله أن ربطت حياتي ومصيري بحياته ومصيره، ولم أنس قوله لي يوماً في عام 1365هـ عندما أظهرت له كبر سني بتركي الخضاب، وإتكائي على عصا أثناء سيري، وعندما سألني السبب أخبرته برغبتي في العودة إلى المدينة المنورة والاستقرار فيها بعد أن آل شأنها إليه رحمه الله، فأجابني أريدك أن تكون على يقين يا حمزة من أنه لن يفرق بيني وبينك إن شاء الله إلا الموت فأخذت ذلك على محمل الرضا منه والاستجابة مني كان يرحمه الله يريد مستشاريه أن يكونوا قريبين منه، ومتقاربين معه حتى في المظهر، وما هذا إلا جانب إنساني نبيل من علاقة ابن سعود برجاله، فلقد ذهب عنا إلى جوار ربه، ولكن ذكرياتنا عنه لا تزال حية في نفوسنا إلى أن نصير إلى ما صار إليه.
وذكر الدكتور عبدالرحمن الزهراني في كتابه «من رجال الشورى» أن السيد حمزة أول من مارس الصحافة من أبناء المدينة المنورة، كما كانت رئاسته لبلدية المدينة المنورة بعد ذلك بعام.. وفي عام 1338هـ انتقل إلى حائل حيث عمل مع الأمير عبدالله بن رشيد - رحمه الله إلى عام 1340هـ حيث اتجه في العام الذي يليه إلى الرياض، فعينه الملك عبدالعزيز مستشاراً له، وهو الذي كلفه برئاسة الوفد المشارك في المؤتمر العربي بـ(الكويت) عام 1342هـ، كما رافق الملك عبدالعزيز في رحلته من الرياض إلى مكة عام 1343هـ ومنها إلى كافة مدن وقرى وبلدان الحجاز».
هذا وقد ترجم له العلامة خير الدين الزركلي وذكر أن الملك فيصل بن عبدالعزيز هو من وافق على طلبه التقاعد من عمله في السلك الدبلوماسي الذي ظل فيه ما يقرب من سبعة عشر عاماً ثم قضى بقية حياته بعد تقاعده عام 1384هـ في بستانه المعروف بحدائق الزهور على ضفاف وادي العقيق العذب بالمدينة المنورة ومن نافلة القول التطرق إلى حديث جرى بينه وبين المؤسس قبل أن ينضم إليه حيث قال له (أراك أخيرا قدمت إلينا يا حمزة فما السبب؟ وهل أتيت مسلماً أو مقيماً؟ فقال حمزة: إن أردتني مسلماً فأنا مسلم وأرحل، وأن أردتني مقيماً فأنا مقيم، فقال له الملك عبدالعزيز: يا حمزة إنك لم تكن صديقا لنا وخنتنا، لكنك كنت مع ابن رشد تساعده ضدنا، ولم تخنه أو تتخلى عنه، فأهلا بك في بلادك وستكون مستشاراً لي) وأخيرًا:
فبعد عمر مديد يقرب من ثلاثة وتسعين عاما وافته منيته في شوال من عام 1390هـ ودفن في بقيع الغرقد رحمه الله وأسكنه الفراديس.
... ... ... ...
مصادر المادة
- حمزة بن إبراهيم غوث من الجهاد إلى الصحافة ثم إلى السفارة - صحيفة البلاد، 3 - 7 - 2012.
- رجال أخلصوا لدينهم وملكهم ووطنهم رغم ظروف التأسيس الصعبة - حمزة غوث الصحفي والمستشار والدبلوماسي صحيفة الرياض الجمعة 15 جمادى الأولى 1436هـ رقم العدد (65 - 170).
- حمزة غوث - محمد بن عبدالله السيف، المجلة العربية، رقم العدد 5274، أغسطس 2020 ذو الحجة من عام 1441هـ.
** **
حنان بنت عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى -
عنوان التواصل: ص. ب 54753 الرياض 11524
hanan.alsaif@hotmail.com