يقرر القرآن الكريم أهمية العمران في الحياة. بل جعل ذلك من الأهداف الرئيسة للإنسان حتى يستقيم معاشه ويضمن مستقبل حياته.
والعمران نوعان بشري (معنوي أخلاقي) ومادي (منشآت ومنجزات). ودون شك بأن الأول يؤثر على قوة الثاني.. والثاني ينعكس على الأول في رفاه الحياة. والأول حينما يكون قوياً في معناه أثره كبير على الثاني في مبناه.
وضعف الأول (البشري) بالتأكيد ستراه ماثلاً في إنتاج وإنجاز الثاني حيث الضعف والخمول والتخلف.
* أهم مظاهر العمران البشري ما يمكن تسميته بـ(العمران الفكري).
هذا المعنى الذي هو لغز التطور وأس الحضارة.
لا يمكن لأي دولة أن تنهض دون حراك فكري فاعل ومتفاعل مع قضاياها وحمل همومها والعمل الجاد على تعزيز هذا المعنى في أجيالها وفي مناهج مستقبلها.
* السؤال.. كيف يتم العمران الفكري.. كيف نعمر الفكر؟
وبالمقابل ما هي مفسدات الفكر.. ما الذي يميت التفكير أو يخنقه؟
أولاً: على المستوى الشخصي
أعظم سبب في تعزيز العمران الفكري هو (التفكر) وهذا البعد له من الأثر ما لا حد له ولا عد.. وقد أكد القرآن على هذا المعنى في مواقع كثيرة من كتابه العزيز {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} فالسياحة التفكرية هي من أجل الأسباب المنمية للتفكير.. {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} دعوة صريحة لتبني قضية التفكير فرادى وجماعات.. حينما نريد أن نفعل شيئاً أو نواجه مشكلة او معضلة!!
وقد رأيت أثر ذلك على حياتي فجعلت ذلك منهجي.
ثانياً: العمران الفكري يولد في الأسرة.. في جنبات البيت أولاً.. حيث يمكن للوالدين من خلال أساليبهما في تنشئة الأولاد من بذر هذا المعنى أو منعه..!!
وقد جعلت لأسرتي جلسة أسبوعية بعد مغرب كل جمعة نتدارس شيئاً من القرآن والسنة والتربية والثقافة.. لتعزيز التفكير لدينا.
ثالثاً: من البيت إلى المدرسة
ولست أنا من يحكم على أساليب التعليم ولكنه الواقع الذي يعكس ذلك.. وما إذا كانت طرق التعليم فضلاً عن مناهجه تعزز التفكير لدى أجيالنا أم لا؟
فقدان الحوار.. وجمود المادة.. وخلوها من الممارسات الميدانية.. وتكريس ممارسة التلقي.. كلها وغيرها تعزز نمطية وتقليدية التفكير لا تنميته فضلاً عن إبداعه.
رابعاً: قلة منصات ومواقع القراءة وتقريب الارتباط بالكتاب، اجتماعياً وأسرياً وشخصياً.
خامساً: ندرة المقاهي الثقافية التي يحب أن تكون ظاهرة اجتماعية، حيث تشجع الأجيال على الاجتماع على الموائد الثقافية في المقاهي، دون أن يكتفي الشباب بشرب القهوة وقطعة حلوى.. إذ لو كان هناك حراك ثقافي مدعوم من الجهات المعنية لكان في ذلك نفع كبير في دفع عجلة التفكير وتنميته.
سادساً: لا يوجد في الواقع ما يسمى (محاضن التفكير) أو ما يسمى بالإنجليزي (Think Tanks) وهذا الأسلوب الراقي يجب أن تتبناه الجهات المعنية في التعليم (بل كل محال) وأن يشجع عليه طلاب الجامعات في أنشطتها. وما أجمل أن يوجد قاعات مخصصة لتنمية العقول من خلال الحوارات المفتوحة التي تصب في مصلحة خدمة الوطن في أي مجال.. وأهمها خلق الأفكار من خلال محاضن تتبناها كل جهة حسب أهدافها.
سابعاً: يمكن أن تتبنى وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية من خلال لجان التنمية، التوصية على اللقاءات في المدن والمحافظات والأحياء على وجود برامج (للتحفيز الفكري) كل حسب إمكانياته. بل يمكن التوجه لإيجاد، جمعيات في المناطق تعنى بمثل هذا الهدف.. تستهدف تنمية الأفكار التي تخدم مختلف مشاريع المدن والمحافظات. تركز إنتاجها فقط على خلق الأفكار التي تصلح للتطبيق.
ثم تنتقل الأفكار إلى حيز التنفيذ من فرق أخرى. فأنا متأكد بأن هناك من يجيد التفكير والرؤى الاستراتيجية وربما لا يجيد العمل الميداني كما يجيد التفكير. وهناك من يبدع فيهما.
ثامناً: نحتاج لدورات مختصة من مدربين أفذاذ يتبنون هذا المسار الحضاري تكون خلفهم جهات داعمة إما وزارة أو جامعات.
تاسعاً: إشاعة ثقافة ومفهوم (فلسفة التفكير) لما له من أهمية بالغة في حسن إدارة الذات ابتداء وبالتالي انعكاس لك على العمل والأمل.
عاشراً: الإعلان عن جوائز للأفكار الجميلة في كل مجال اجتماعي. أو اقتصادي أو رياضي أو ترفيهي تتبناه جهات معنية لإشراك الناس في الحراك الفكري. غياب المشاركة هو جزء من غياب العمران الفكري إذ كيف نعزز أفكار الناس وهم عن همومهم معزولون أو غافلون!!
هذه عشر أسباب وربما لديكم غيرها نحتاج لأن نتبناها لنؤسس لمسار مهم في حياتنا بل لحضارتنا, من خلال التأكيد على كل ما يفيد في تنمية (العمران الفكري) في وطننا. ذلك أن عمران فكر الإنسان سيؤثر بكل تأكيد على عمران التنمية والأنشطة والبنيان.
في الختام:
أس أي حضارة فاعلة مرتبط بنسبة تعزيز العمران الفكري في مجالات حياتها.