عبده الأسمري
في عصور مضت كان للأدباء مكانهم في مجالس «القوم»، ومكانتهم في مواقع «القرار»، وظل الشعراء في بلاط الحكام ينثرون «الشعر»، ويكتبون «الأغراض»، وينشدون «الألغاز»، ويحيكون «الخطب» في وقت كان هنالك حكماء يتسمون بالثقافة، ويتصفون بالأدب، لديهم من «اطلاع» المعارف و»اتساع» المدارك ما يجعلهم أصحاب «رأي» وسادة «كلمة»، يستعين بهم «كبار» العشيرة و»سلاطين» الأماكن في صياغة القرار وحياكة الاستقرار.
وفي الأسواق التاريخية ظل بائع الكتب وناشر المعرفة رجلاً قديرًا، وشخصًا مقتدرًا، تحيط به دوائر الباحثين وراء المعارف، واللاهثين خلف المشارف لنيل حكمة جائلة، أو اصطياد نصيحة حاضرة، أو شراء كنز من كنوز الشعر أو التاريخ أو التراث في وقت كانت فيه المؤلفات مجرد كتابات توثقت في القلوب الحية أكثر من عباراتها على «الجلود» الميتة آنذاك.. وظلت الثقافة نقطة التقاء ومنبع لقاء، تجتمع لأجله البشر، وتتآلف لوقعه الجماعات حتى ظلت وسيلة أُديرت بها حقب تاريخية، بقيت شاهدة على سلطة «القلم» وسلطنة «الفهم» رغمًا عن ويلات الحروب التي طالما أشعلتها نيران الجهل، وأطقتها مشاعل العلم.
توالت السنون فارتفع حجم التطور، وتزايد مؤشر الابتكار، وتباينت الفنون الأدبية؛ لتتحول إلى القصة والرواية والنقد والتحليل والشعر والنثر والخاطرة والرصد والدراسات.. ومر على محطات «الثقافة» فطاحلة من المؤثرين وعباقرة من المميزين الذين لا يزال صدى إرثهم شاهداً على انفراد التأليف ومدى تراثهم، صامدًا أمام مداد التوصيف..
تتبدل المسؤوليات، وتتغير المهمات في مسارات «الحياة العملية» التي عادة ما ترتبط بالأسس والثوابت والمنطلقات، في حين تأتي الثقافة لتكون المساحة المفتوحة للإبداع والساحة المسموحة للإمتاع، ويأتي المثقف ليرسم خارطة التأثير بخطوط خضراء للتفاؤل على صفحات بيضاء من التجديد، لا تعترف بأي حدود حمراء سوى الارتهان إلى برهان العقيدة، والخروج من شكوك الاعتقاد..
لذا فان تسلّم الأدباء والمثقفين المهام المحددة يعد بمنزلة «زنزانة» تقيده عن التحرك بحرية في مراكز صناعة الإنتاج الأدبي.. فضالته في هواء طلق ينشد من خلاله التحرر من قيود التكرار، وينال وسط أفقه التجرد من جمود التكرير.. ليبقى مقيماً في متن الجديد، ثاوياً أمام عتبات التسديد وصولاً إلى وضع الآخرين أمام «بشائر» جديدة من العطاء، و»عطايا» متجددة من السخاء تحت ظلال الكلمة، وفي استظلال الحرف..
في معاني البشرية يأتي الأدب أصلاً من أصول التحضر، وركنًا من أركان الحضارة، ومقياساً من مقاييس التقدم، وأساساً من أسس التميز؛ فمنه تتباهى الشعوب بأسماء أدبائها الذين أكملوا «فراغات» الحياة ومثقفيها الذين بنوا «صروح» المعاني..
في أساسيات المقارنة، ومحكات التنافس، تظهر «الثقافة» معياراً للتطور الفكري والابتكار المعرفي.. ففي ميادينها تتجلى اعتلاءات الكلمة، وتنجلي اعتلالات الرجعية، وتسمو بالمجتمع إلى منصات «التكريم»، وترتقي بالشعوب إلى مستويات «التتويج»، وتسهم في تمهيد دروب «المعرفة» أمام الأجيال، وتجعل للحياة ألوانًا جاذبة من الرؤية الفكرية، وأبعاداً جذابة من الهوية المعرفية باتجاه مستقبل واعد.
للأدب أسبقية تتجاوز كل مسالك التعلم لاعتماده على «الأثر»، وتعامده مع «التأثير» لصناعة مرحلة أدبية، تشكل للمقيمين في مساحاتها دهرين، أحدهما للثبات، والآخر للتحول؛ ليكون الطريق مفروشاً بالوجود والحاضر، منقوشاً بالصمود في سبيل اللوذ بكل معنى للفكر، والقبض على كل مغنم للتفكر.. وللثقافة أحقية تجعلها جوهرة «المفاهيم»، وسيدة «الأمنيات»، وملكة «العلوم» في منظومة بحوث وحوارات ونقاشات تصعد على سلالم «الرقي»، وتتجاوز توقعات «الأماني»؛ لتعطي للحياة وجهاً جميلاً بملامح «التطورات» ومطامح «الابتكارات» في متون الكتابة وشؤون القراءة ومزون التأليف وشجون الأحاديث..