خالد بن حمد المالك
يُعدُّ الدكتور عبدالله مناع الذي توفي يوم السبت 23 يناير 2021م حالة خاصة بين الكتَّاب، تنوعًا، وحماسًا، نقرأ عباراته، نتفحص أفكاره، فنعرف أن وراء هذا المقال أو ذاك كاتبًا اسمه عبدالله مناع، ذو العبارة الرشيقة، والجمل الأنيقة، والخيال الواسع، والفكرة المخضبة بالثبات على المبادئ.
* *
يكتب مقالاته، وفيها العمق في الطرح، والمتابعة اللصيقة بالأحداث، والبعد القومي والإنساني، محتفظًا بقدر عال من التمسك بالموضوعية، وطرح الاستشهادات التي تعطي بريقًا وجاذبية لإقناع قرائه بما يكتبه.
* *
ولدى عبدالله مناع ثوابت لا يتنازل عنها، وقضايا يتمسك بها، بحس قومي لا يتغير، والتزام يكون ضمن أولوياته الدفاع عن الحقوق العربية، وإصرار منه على مساندة كل موقف عروبي يتناغم مع توجهات المناع الغارق بحب الوطن العربي بكل امتداداته.
* *
وضمن ما يتميز به الدكتور المناع وفاؤه للإنسان، فهو كاتب لا يغيب قلمه متى فقد أحدًا من أصدقائه وزملائه وعارفيه، ومقالاته تشهد له بكم هائل من المرثيات التي سكب فيها دموعه وحزنه وتأثره، وحرص فيها على تعداد مآثر ومحاسن ومكانة الراحلين من محبيه.
* *
وللأرض عنده كما للإنسان حقها من وفاء عبدالله مناع، صوَّرها وجسَّدها في بضع مؤلفات وكتابات صحفية، فقد أحب مدينة جدة حب العاشق لها، المتيم بها، وكتب أجمل ما يمكن أن يكتب عنها بعبارات مموسقة، ومعلومات مهمة، وتاريخ ضارب في القدم، وأشكال جمالية جاذبة، وكأنك تقرأ شعرًا لا نثرًا، وكأن هذه العروس ليس لها مثيل، في جمالها وطبيعتها وتاريخها، وانجذاب الناس نحو جمالها الأخاذ.
* *
ومثل ذلك ما كتبه عن الديار البعيدة التي سكنها خارج المملكة، في مصر، وفي سويسرا، في شقته أو «كوخه» كما يسميها، حيث يقضي بها بعض شهور السنة، ويلتقي فيها برموز المثقفين، وأرباب القلم، مع قهوة الصباح التي اعتاد ارتشافها، وأبدع في وصفها، وكأنه يكتب قصيدة غزل فيها.
* *
وفي كتاباته هناك اهتمامات بقضايا وموضوعات لا حدود لها، فهو يكتب في السياسة، والفن، والرياضة، والأدب، والتاريخ، والقضايا الاجتماعية وغيرها، ويستحضر في كل مقال ما يناسبه من تجارب الرواد والمشاهير والرموز في كل فن، ولا ينهي بعض مقالاته دون أن يصبغها ويزينها باستحضار أحد الأسماء والشخصيات الكبيرة الخالدة، توثيقًا وتعميقًا لفكرة تكون موضوع نقاشه وطرحه.
* *
وعبدالله مناع بزغ نجمه كاتبًا عملاقًا في فترة مبكرة من عمره، وتحديدًا حين كان يتلقى تعليمه الجامعي في كلية طب الأسنان بجامعة الإسكندرية، وهو التخصص الذي أنهى به سنوات الغربة والتخرج من الجامعة بنجاح، لكن دراسته لم تشغله عن اهتمامه الأدبي والثقافي، وحاجته إلى تطوير مواهبه وثقافته بالالتقاء بأدباء وشعراء وفناني مصر الكبار، بحضور صالوناتهم أثناء دراسته، ومطارحتهم في الآراء والمداخلات، مما زاد من ثقته بنفسه، وتوسيع مداركه الثقافية، وهو ما يفسر لنا ميله إلى الثقافة والأدب والإعلام وانصرافه عن الطب، بإقفال عيادته، بمعنى أنه كان منحازًا إلى الكلمة الجميلة بأبعادها الفكرية والفنية وقضاياها الكثيرة التي لا تنتهي، وفي هذا يقول: «في الطب عشت بإنسانيتي، وفي الصحافة عشت بكل كياني وجوارحي».
* *
ومثلما أن الدكتور عبدالله كان كاتبًا مبدعًا فهو محاضر لا يغيب عن المناسبات والمنصات، وكلما وجدت فعاليات ثقافية وأدبية يكون عند حضوره ومشاركته عاملاً لنجاحها، وذا أثر في استمتاع الحضور بما سيسمعونه منه من آراء ووجهات نظر، ومن صراحته في قول ما يراه، بصوت مقنع، وأفكار يتفق الكثيرون معه عليها؛ ليضيف بذلك إلى محاضراته بالأندية الرياضية والأدبية وجمعية الثقافة والفنون وغيرها، اتجاهه نحو إصدار عدد من الكتب في تخصصات مختلفة، بين القصة والرواية والرصد التاريخي وغيرها، كما في كتابه (بعض الليالي.. بعض الأيام)، وكتابه (لمسات)، وكتابه (أنين الحيارى)، وكتابه (ملف أحوال)، وكتابه (الطرف الآخر)، وكتابه (العالم رحلة)، وكتابه (شيء من الفكر)، وكتابه (إمبراطور النغم)، وكتابه (جدة الإنسان والمكان)، وكتابه (كان الليل صديقي)، وكتابه (شموس لا تغيب.. نجوم لا تنطفئ).
* *
قصة الدكتور عبدالله مناع فيها من التجارب والنجاحات كما كان فيها الانكسارات والمواقف الصعبة، ما لا يمكن حصرها في ملتقى واحد، أو في بضع كلمات، غير أن هذه المبادرة من النادي الأدبي بجدة تفتح الطريق نحو مزيد من العمل لإلقاء الضوء على نصف قرن مضى وانقضى، يمثل رحلة عبدالله مناع الإعلامي والمثقف والكاتب الأنيق، ذي العبارة الرشيقة، والفكر الخلاق، فقد كانت الكلمة صوته وأساه معاً في زمن لم يعط في حياته حقه من الإنصاف والتكريم.
* *
هذا بعض ما يمكن أن أساهم به في تأبين الراحل الكبير عبدالله مناع الذي توفي عن عمر يناهز الاثنين والثمانين عامًا، فقد نشأ يتيم الأب؛ لتتولى والدته وجدته تربيته، ويكون بذلك أحد أبناء حارة البحر في عروس البحر (جدة) المتميز بالمواهب، وبخاصة موهبة الكتابة عنده منذ بواكير شبابه. وعن هذا اليتم يقول المناع: «لو كان اليتم رجلاً لقبّلت جبينه؛ فاليتم والفقر حفزاني للنجاح. اثنا عشر عامًا دراسيًا دون رسوب، وفي الإسكندرية خمس سنوات طب وسنة امتياز دون تعثر، رغم أن الدراسة باللغة الإنجليزية».
* *
رحم الله صديقنا الدكتور عبدالله مناع، وجعل مسكنه في عليين من الجنة، وألهم زوجته هدى أبو زنادة وابنتيه سجا وسندس وابنيه عمرو وهشام وجميع أقاربه ومحبيه الصبر والسلوان.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.