د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
قلت له ونحن خارجان من المسجد: هل تعلم أن أبا خالد كنية البحر؟ فضحك! وقال من يقوله؟ فقلت: أنا أقوله لك الآن! فعرف أني أريد ممازحته، فقال: قضينا، أنت إذا قلتَ سمعنا، وإن كبّرتَ كبّرنا!
فقلت: أنت يا أبا خالد بحر في خُلُقك وكرمك وشيمتك وعزيمتك وجوارك، ثم قلت له وهو ممسكٌ يدي: الحافظ ابن كثير رحمه الله صاحب التفسير ذكر أن نبي الله موسى عليه السلام لما أمره ربه أن يضرب بعصاه البحر أنه كنَّى البحر فقال له: انفلق عليَّ أبا خالد بحول الله.
حدثني عن عمله مع والده في بلدة الحصون بسدير، وعن لقياه لعدد من أهل العلم والأدب، قال مرة: إن راعي الداخلة والشاعر المبدع سليمان بن علي رحمه الله كان صاحباً لأبي، كثير الزيارة له، وإني أردتُ أن يقول فيَّ أبيات ولو هجاءً! فجاءنا مرة وهو لابس مشلحه، فقلت له: كأنك فأر يجر قرصاً، فالتفت إليَّ، ولم أبلغ حينها عشر سنين، فقال: توك يا ولدي ما تركب عليك البرذعة!
يقول أبوخالد: لا أعلم كيف جاء هذا الوصف مني له مع صغر سني.
قدم رحمه الله إلى الرياض واشتغل مع الذين يبنون البيوت، ثم سجل اسمه في المطار، ثم سلك نفسه في شركة الكهرباء، وكان جاداً مجتهداً متبصراً بواقع الحال، مسابقاً للزمن.
وكان يتذوق الشعر وربما قال بعض القصائد، ولكن لا يحب أن يشتهر به.
جاء إليَّ أحد أصدقائي الأعزاء وهو من المشايخ الفضلاء، وصادف وقت مجيئه حضور الصلاة فذهبنا إلى المسجد ولما أردتُ الخروج من المسجد وإذا بأبي خالد يريد الخروج من المسجد فوقف، وسلمتُ عليه، وسلَّم عليه صاحبي، فقال: تفضلوا عندنا، فقال صاحبي: أريد هذا وأشار إليَّ، فقال: عسى ما تطلبه شيء، فقال: بلى، فقال أبوخالد: أنا أقضيه عنه وأقوم مقامه فيه، وتفضلوا معي، فقال صاحبي: نعم الجار أنت.
كنتُ أتصاغر نفسي عند همته في التبكير في المسجد خاصة صلاة الفجر قبل أن يثقل، وأقول رجل تجاوز الثمانين من عمره ويتحامل على قدميه، وهو يشتكي منها.
سألته عن حاله: فقال ما دام أَصِلُ إلى المسجد فأنا في عافية.
قلت له: إني سائلك أبا خالد فاصدُقني! حين كنت شاباً هل قلت في نفسك: إذا كبرت سأتفرغ للعبادة؟
فقال: نعم يا أبا عبدالله كنا نُمنِّي أنفسنا، لكن حقيقة من لم يتعود على العبادة أثناء شبابه ووقت نشاطه ويُعوِّد نفسه وإلا فسيتعب إذا كبر سنه، وضعفت حاله.
ذكرني قول أبي خالد هذا بما قاله إبراهيم بن شماس رحمه الله: (كنتُ أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام، وهو يحيي الليل).
وبما قاله عاصم بن عصام البيهقي: بتُّ ليلة عند أحمد بن حنبل فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان، فقال: «سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له ورد من الليل».
كان أبوخالد رحمه الله ذا رأي وتؤدة، حلو المنطق، كريم اليد والنفس، أذكر لما سكنتُ في الحي بجوارهم، وكنت للتو قدمت من عمل، والساعة قريباً من الواحدة والنصف ظهراً جاء إلى منزلي، فإذا هو يضرب جرس البيت بإلحاح وليس لي إلا ثلاثة أيام من السكنى بالمنزل، وكنتُ حينها إماماً في مسجد خارج الحي، فخرجتُ إليه، فقال بعد الترحيب: لنا حق فيك، ولن أغادر المكان حتى تواعدني، فقبَّلتُ رأسه وأخبرته بأني سأضرب موعداً يرضيه بإذن الله، فقال: تراك شيخ لا تصرفني! فقلت: أبشر.
وتم الموعد وجمع أولاده وإخوته في ليلة قال عنها رحمه الله إنها من أحلى الليالي، وكان كثير الترحيب مع وجه طلق، وسن ضاحك، جعله الله في الجنة.
كان إذا مسكت يده أحياناً ونحن خارجان من المسجد يقول: يا هلا وكل الهلا، جابك الله لنا جاراً نتمناك منوة، فأقول له: بل أنا المغبوط فيكم وفي مثل هؤلاء الجيران المباركين جزاهم الله خيراً، يا أبا خالد كنتُ قبل السكنى أسأل الله كثيراً أن يرزقني جيراناً طيبين يكونون أهلاً لي، فرزقني الله بهذا المسجد وجيرانه، فقال: أُبشِّرك أن جماعة المسجد والجيران أجاويد بالحيل، وهم أهل خير، ولا أعرف في مسجدنا صجة ولا لجة فقلت: الحمد لله، فإن الجار مقدم على الدار، فالجار الطيب رزق من الله ونعمة منه سبحانه، بل جاء في الحديث:(من سعادة المرء الجار الصالح)، لذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من جار السوء، حتى إن لقمان الحكيم رحمه الله قال: قد حملت الجندل والحديد، وكل حمل ثقيل، ولم أحمل شيئاً هو أثقل من جار السوء.
أخبرني إمام المسجد حفظه الله أن أبا خالد رحمه الله لم يقل له يوماً لِمَ أطلتَ، لِمَ بكَّرتَ، لم تأخرتَ، بل كان يقول: أخبروني إذا احتاج المسجد إلى شيء.
كانت كلمة «اقلط» حاضرة على لسانه رحمه الله.
قال لي: أبشرك طيلة حياتي ما لقيت من ربي إلا خيراً.
وقال: إن أعظم نعمة بعد التوحيد نعمة الأمن التي نحن فيها، وهؤلاء الأعداء يكيدون لنا الله يخذلهم.
مرة تأخر فلما سلَّم من تحية المسجد قرَّبتُ إليه حامل المصحف الخاص به، فقال: ما بقي إلا ثلاث دقائق وتقام الصلاة، فقلت: تنفعك بإذن الله يا أبا خالد ولو دقيقة، فقال: صدقت بيض الله وجهك، ونشر مصحفه وبدأ بالقراءة.
ومرة أحد الجيران من كبارهم أعطيته مصحفه فقام يشير إلى الساعة كأنه يقول لم يبق وقت على الإقامة، فالتفت إليه أبوخالد فقال له: طاوع أبوعبدالله تراه مريد لك الخير.
لا أحصي مسكي ليده ذهاباً إلى المسجد أو حال الخروج منه، وقد جرى بيننا ممازحات ومطارحات وأخبار كثيرة في هذا الوقت.
كان يلجلج بلا إله إلا الله وهو ماش إلى المسجد، وخارج منه، وكنت أقول له يا أبا خالد: رحمك الله لا تنتظرني لأمسك يدك بعد بعض الصلوات! فقال: وليه حاسدني أن تمسك يدي؟ فقلت: شرف لي، ودعاؤك لي ولأهلي حين أمشي معك ماسكاً يدك لها لذة في قلبي، لكن إذا مسكتُ يدك صرنا نسولف، وأشغلتك عن ذكر الله، وترديد لا إله إلا الله الذي تلجلج بها في جنبات الطريق خارجاً من المسجد، فقال: السواليف مع الجار وإدخال الأنس عليه مهوب عبادة؟ فقلت: نعم إدخال السرور على المسلم من العبادات العظيمة، وأنا أتعبد لله بإمساك يدك وإعانتك، فقال: خلاص أنت شوفتك تدخل السرور عليَّ وأفرح فكيف بإمساكك بيدي؟!
كان يدعو كثيراً بحسن الخاتمة خاصة قبل وفاته بسنة، ربما كرر: اللهم أحسن خاتمتي أكثر من مائة مرة بين الأذان والإقامة.
قصدني أحد الأصدقاء وصادف أن صلَّى بجوار أبي خالد في المسجد قبل وفاته بأسابيع، ثم حدثني أنه سمعه رحمه الله يكثر جداً بشكل لافت من قوله: اللهم أحسن خاتمتي.
كان يُسلِّم على كل من لاقاه، وفي المسجد يجهر بالسلام فيسمعه من في المسجد جميعاً.
قلت له ممازحاً: يا أبا خالد ريِّض في الحياة! فقال: الحمد لله أخذنا من جمَّتها نصيب، وأرجو الله أن تكون أعمالنا مقبولة عنده.
قال لي يوماً: أبوعبدالله ترى عندي ورقة نسيتها بالبيت ولعلي آتي بها الصلاة القادمة وتعطيني رأيك، فقلت: طيب، فجاء بها ونظرتُ فيها، فإذا هي مسودة وقف، فقلت: تحتاج تعديل يسير، فقال: افعل ما شئت فأنت محل النفس، فأجريت التعديل إلى ما أراه أصلح وأنفع، ودفعتها إليه، فشكر ودعا.
أصيب رحمه الله بوباء هذا العصر «كورونا» عجل الله بكشفه عن العالمين، فمكث أياماً بمنزله واتصلت عليه حينها وكلمته، ثم نُقِل إلى المستشفى وبقي في العناية مدة ثم توفي يوم الأربعاء الموافق 4 - 8 - 1442هـ.
وتمت الصلاة عليه من الغد في مقبرة شمال الرياض، وكانت جنازة مشهودة، بكاه الصغير قبل الكبير، وظهر أثر فقده على الجميع.
ذلكم هو جاري العزيز أبوخالد حمد بن فهد بن محمد الريس، الرجل الشهم البشوش اللطيف الكريم.
وما أقول إلا اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها.
قلت: لابنه البار عبدالعزيز تأذن لي آتي بالعَشاء، فقال: هذا الباب مغلق ولا ودنا أن نفتحه؛ إذ الناس بالغوا فيه، ومصابك مصابنا، ونعزيك فيه كما تعزينا فيه، فأنت حبيب الوالد.
خلف أولاداً كراماً وحفدة وأسباطاً يسر الناظر مسارعتهم في بره رحمه الله في حياته، وهو أحوج إلى برهم به بعد وفاته من كثرة الدعاء له رحمه الله.
إيه يا أبا خالد، ما أسرع الدنيا، فقد أمضيتُ معك أكثر من ثلاث سنوات، وكأني أعرفك من ثلاثين سنة، فيا لألم الصحبة التي قَصُرتْ مدتها وطالتْ معانيها ومشاعرها، ورحم الله الإمام أحمد إذ أجاب بجواب عميق الدلالة والمعنى، لما قيل له: لم لا تصحب الناس؟ قال: لوحشة الفراق!
نُوَبُ الزمان كثيرةٌ وأشدُّها... شَملٌ تحكَّمَ فيهِ يوْمُ فراق
ومن فضل الله سبحانه أنه فراق مؤقت، والله أسأل أن يجعل بعده اجتماعاً أبدياً في جنة الفردوس مع أحبابنا وأصحابنا كافة بفضله وكرمه وجوده.
ولا أنس في هذا المقال أن أذكر جارنا العزيز الذي أحسن إليَّ قبل أن أعرفه، وأحببته بعد أن عرفته صاحب الابتسامة والنفس الطيبة العميد المتقاعد أبوحمد محمد بن عبدالله بن محمد أبوحيمد رحمه الله فقد ابتلي قبل أبي خالد بوباء هذا العصر «كورونا» واستمر معه إلى أن توفي رحمه الله، كانت رحمه الله خفيف الظل، كبير النفس، خدوماً بشكل لافت، ويظهر من كريم خلقه أن المحسن هو المخدوم، فتجده يقرب لهذا حامل المصحف في كل فرض تقريباً، وهذا يعطيه مصحفه ولو كانوا في سن أولاده وأحفاده، ويشير إلى هذا أن تعال هنا، وربما لمح احتياج أحدهم إلى المنديل، فيبادر بإتيانه به في خفة نفس، وبشاشة، ولطافة قلَّ نظيرها.
قلت له مرة: يا أبا حمد لا تفعل ذلك معي من تقريب المصحف، فإني استحي كثيراً أن مثلكم يخدم مثلي، فقال: أنت غال عندي وأنت جاري ولك الحق، وإن لم أخدمك من أخدم، فدعوتُ الله له وألححتُ عليه ألا يفعل، فكان يباغتني بوضع المصحف بجواري قبل انتهائي من السنة الراتبة.
حدثني مرة أنه كان في مسجد الحرس الوطني فرآه الملك عبدالله رحمه الله، فقال له: جزاك الله خيراً أنت خادم للمصحف وللذين يقرؤونه.
أما جانب العبادة خاصة مسارعته إلى المسجد ومسابقته إليه، فلم أر مثله في تبكيره إلى الصلوات يأتي إلى المسجد قبل النداء للصلوات المفروضة على الأقل بثلث ساعة في جميع الصلوات، لم أدخل المسجد إلا وهو موجود في مكانه المعروف بجوار المؤذن، لا يحبسه عن التبكير إلى مسجد الحي إلا مرض أو سفر.
وقريباً من الساعة التاسعة في صباح الجمعة تجده في المسجد لابساً مشلحه، يختم القرآن ثم يعيده، كم من مرة شهدته يدعو بدعاء ختم القرآن.
وفي رمضان يَتعَبُ منافسه على أن يفعل فعله.
يبادر بالسؤال عن جيرانه حين يفقدهم في المسجد، ثم يخبر الجماعة أنه بخير وعافية أو يقول: إن جارنا مريض، وسأذهب لزيارته.
كان يقول لي: إذا احتجتَ شيئاً فأخبرني، والسائق الذي لدي والعامل الذي عندي تحت تصرُّفك.
ذهب المقاول الذي قام على بناء منزلي إلى بيت أبي حمد يطلب منه أن يستفيد من الكهرباء على العادة المتبعة في مثل ذلك، فلم يتردد كما أخبرني المقاول بعد ذلك، ولم أعلم عن طلب المقاول إلا بعد مدة طويلة فهذا إحسانه إليَّ قبل أن أعرفه.
ألحَّ علي كثيراً في عزيمة بعد السكنى بجواره، فكنت أُأخره، لعله ينسى، حتى قال مرة: يا أبا عبدالله تعطيني موعداً هذا الأسبوع أو الذي يليه ولا أقبل عذراً، فتم الموعد، وجمع إخوته وأبناءه الكرام على العشاء، وبعث بعشاء إلى منزلي وكان كثيراً، فقسمته على ثلاث بيوت جعل الله أجرها لأبي حمد.
كان يقول لي ولأبي خالد إذا خرج من المسجد، ونحن نتحدث في الطريق عند المنزل، آتي لكما بكرسي! فأقول له: لا مانع بشرط أن تكون ثلاثة كراسي!
مرة عرض لإمام المسجد عارض فأنابني في صلاة التراويح فلما انتهيت من الصلاة وذهبتُ، تبعني أبوحمد شاكراً وداعياً ثم قال لي: هل يصح أن ندعو لبعض ذرياتنا دون بعض؟ ففهمتُ مقصده؛ إذ قد قلت في الدعاء: (اللهم اجْعَلْنا مُقِيمي الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّاتنا)، كما في دعاء أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقلت: إن «مِنْ» هنا ابتدائية وليست للتبعيض على ما ذكر بعض المفسرين، ويصح أن تكون للتبعيض، فقال: إبراهيم عليه السلام لعل عنده علماً بأن ذريته لن يكونوا كلهم على الحنيفية ولا كلهم سيقيمون الصلاة، فدعاء بالتبعيض، أما نحن فنقول: (اجعلنا مقيمي الصلاة وذرياتنا)، فقلت: أبشر يا أباحمد وأشكركم على هذا التنبيه.
كنتُ بجواره رحمه الله مرة فنظرت إلى مصحفه وهو ناشره يقرأ فيه، فإذا هو قد كتب تفسير ومعنى بعض الكلمات التي يغيب معناها عن الذهن أو لا تدرك إلا بمراجعة كلام أهل العلم.
لما أردتُ البدء بإلقاء درس على جماعة المسجد بادر أبوحمد بالإتيان بكرسي الدرس، وبادر أبوخالد بالإتيان بطاولته فرحمهما الله ورفع منزلتهما.
كان فقدهما عظيماً سائلاً الله أن يأجرنا فيهما ويخلف علينا خيراً، فهما أقرب الجيران لي حساً ومعنى.
توفي أبوحمد رحمه الله في ليلة الاثنين الموافق 16 - 4 - 1442هـ وصلي عليه في عصره، فرحمه الله من جار كريم، ورجل شهم نبيل، وبارك في أهله وعقبه، وأخلف عليهم وعلينا خيراً، وجزاه الله عني خير الجزاء، والحمد الله على كل حال.
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء