منصور ماجد الذيابي
أثار تقرير جهاز الاستخبارات الأمريكي مؤخراً سخط البيت البيض؛ ما دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه قاتل وأنه سيدفع الثمن، في إشارة إلى فرض مزيد من العقوبات التي بدأت منذ خمس سنوات على روسيا الاتحادية؛ بعد أن كشف التقرير عن مؤشرات للقرصنة الروسية والتدخل في الانتخابات الأمريكية عام 2016، إضافة إلى الهجمات السيبرانية التي يرى فيها البيت الأبيض تهديداً روسياً مباشراً للأمن القومي الأمريكي، باعتبار أن أصابع القراصنة الروس طالت -وفقاً لوسائل إعلام أمريكية- وكالات فيدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية.
لا يخفى على أحد أن هذا الصراع بين القوتين النوويتين ليس جديداً، فالكل يعلم أن تاريخ الصراع يعود إلى حقبة حرب النجوم التي أطاحت بالدب الروسي عام 1991 في عهد الرئيس السابق ميخائيل غورباتشوف، بعد إعلانه استقالته وتسليم كافة سلطاته الدستورية بما فيها السلطة على الأسلحة النووية للرئيس بوريس يلتسن.
وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان «وصلت إلى ليبيا بعد خراب سوريا»، فقد شكّلت هذه المرحلة منعطفاً قويّاً وحقبة مفصلية في التاريخ من حيث إنها جاءت إعلاناً لنهاية الحرب الباردة بين قطبين نوويين هما منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحلف وارسو.
وفي حقيقة الأمر أن الدولة السوفيتية - وهي القوة العظمى الثانية - لم تكن لتنهار أمام القوة العظمى الأولى لحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لولا استمرار ليونيد بريجنيف ومن بعده جورباتشوف باتباع سياسة زعماء السوفييت السابقين، إذ بقي بريجنيف وجورباتشوف يسيران على خطى لينين وستالين، عندما اتجه كل منهما خلال سنوات فترة حرب النجوم إلى بناء ترسانة عسكرية هائلة على حساب التنمية الاقتصادية والحالة المعيشية التي تدهورت إلى درجة قيام الحكومة آنذاك بتوزيع بطاقات تموينية على كل مواطن سوفيتي للحصول على الحد الأدنى من السلة الغذائية الاشتراكية.
ما أود الإشارة إليه في هذا المقال هو أن تصريح البيت الأبيض وفقاً لمراقبين يعد تصعيداً خطيراً وجديداً لإعادة نذر الحرب الباردة بين القطبين النوويين اللذين يشكلان خطورة قصوى على الأمن والسلم الدوليين إذا ما وصلت الأمور إلى حد إعلان الحرب بينهما.
وعلى الرغم من تقليل بعض المحللين السياسيين من أن تؤدي التصريحات الإعلامية إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين حتى بعد قيام روسيا باستدعاء سفيرها في واشنطن للتشاور على خلفية التصريح الأمريكي الذي وصفته روسيا بأنه مهين لروسيا الاتحادية، إلا أنني أعتقد أن الولايات المتحدة لن تتردد حتى في مهاجمة روسيا عسكرياً وسيبرانياً واقتصادياً إذا ما شكّلت التدخلات الروسية خطراً على الأمن القومي الأمريكي، أو تهديداً لمصالح الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا ومنطقة الشرق الأوسط الغنية بمصادر الطاقة. وكان الرئيس الأمريكي ذكر في معرض حديثه أن على روسيا أن تكون مستعدة للرد الأمريكي في حال تكررت التدخلات الروسية في الشئون الأمريكية.
وكمراقب للشأن الدولي عموماً، أرى أنه في حال نشوب صراع مسلح بين الدولتين فإن الصين وهي القوة القادمة ستكون المستفيد الأول من هذا الصراع إن حدث. فالصين وإيران وكذلك تركيا تسعى كل منها إلى إحياء إمبراطورياتها السابقة بهدف التمدد والتوسع في المناطق التي تتواجد وتواجدت فيها روسيا وأمريكا، وبالتالي ستكون الساحة العالمية مسرحاً مستباحاً لتدخل هذه الدول الثلاث في حال غياب الدولتين العظميين وانشغالهما بالصراع الذي سينتج عنه هشاشة النظام العالمي؛ مما يسمح للصين وتركيا ومعهما إيران باستغلال فرص الوجود العسكري في شرق المتوسط وشمال ووسط إفريقيا، وفي جنوب وشرق آسيا.
ليس هذا فحسب، بل إن تحول المناوشات الإعلامية بين روسيا وأمريكا إلى أي من أشكال المناوشات العسكرية سيقود دول العالم بأسره إلى حرب عالمية ثالثة تخرّب النظام المالي العالمي، وتبتلع اقتصاديات الدول الأخرى في دوامة الفوضى والصراع وغياب القانون الدولي.
ورغم اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية بينهما، إلا أن تصعيد التوتر بين روسيا وأمريكا سينسف كل المعاهدات الدولية بما في ذلك معاهدة الحد من نشر منظومات الدرع الصاروخية. فالحرب بين قوتين نوويتين لن يكون مثل الحرب بين الكوريتين أو كمثل الحرب بين أذربيجان وأرمينيا مثلاً، إذ إن طرفي الصراع سيستخدمان الصواريخ العابرة للقارات والحاملة لرؤوس نووية، إضافة إلى استخدام الطائرات الحربية وإسقاط القنابل النووية مما سوف يتسبب في تلوث الهواء بالغازات السامة في كل أرجاء العالم.
من كل هذه المعطيات التاريخية والمعاهدات التي تحكم العلاقات الدولية والعلاقات الثنائية بين القطبين المتنافسين نفهم أن تحول الأزمة الدبلوماسية بينهما إلى عمل مسلح سيفتح المجال أمام دول مارقة ومنظمات إرهابية أخرى للدخول في دائرة الصراع؛ بحثاً عن غنائم اقتصادية أو مكاسب جيوسياسية أو إحياء لإمبراطوريات سابقة لا زالت تشكل حلماً وردياً بالعودة إليها لبسط نفوذها وهيمنتها كما حدث في الزمن الماضي مثل الإمبراطوريات الفارسية والعثمانية والبريطانية.
وكانت بريطانيا أعلنت قبل أيام قليلة عن عزمها زيادة مخزونها النووي؛ ما جعل روسيا تعبر عن قلقها العميق وغضبها الشديد من الخطوة البريطانية. فالقوى العظمى ترى أنها لا تكون عظمى إلا بتفوقها نووياً وعسكرياً واقتصادياً على الدول الأضعف في معادلة توازن القوى.
وعندما يندلع الصراع بين الكبار، فإن الدول الأقل تسليحاً قد تنزلق في صراعات عسكرية ثانوية أو تشترك في تحالفات عسكرية مع القطبين المتصارعين لحمايتها من تهديد الدول الأخرى بعد اشتعال حرب عالمية ثالثة ستكون أشد فتكاً بالجنس البشري، بما يعادل أضعاف الضحايا والخسائر المادية في الحروب العالمية السابقة. كما أن صراع الكبار سيفتح شهية المليشيات والفصائل المسلحة والمنظمات الإرهابية للتواجد عسكرياً في مناطق الصراع السابقة.