د.بكري معتوق عساس
أكثر من ثلاثةِ عقود منذُ حزمت أغراضي مودعاً الكلية الجامعيةَ بمقاطعة (ويلز) حاملاً الدكتوراه في الإحصاء التطبيقي. كانت السنوات الأربعُ التي قضيتها في هذه الجامعة العريقة تعادل عمراً بأكمله بما فيها من التجربة والخبرة والتعلّم والتعليم والاحتكاك الثقافي. كان ذلك في منتصف تسعينيات القرن الميلادي الماضي، حيث لم تكن البعثات والسفر أمراً شائعاً كما هو في وقتنا الحاضر.
ما زال في الذاكرة عندما مررت بالملحق الثقافي بلندن الأستاذ الأديب الأريب والمربي الفاضل عبد الله الناصر لأسلّمه الأوراق اللازمة. ومن الطريف أنني لم أره مرة أخرى ألا بعد نهاية البعثة لأخذ إخلاء الطرف، وقد قال لي يومها مداعباً: «أهلاً بالدكتور أوحشتنا»، وقدَّم لي خطاباً يهنئني فيه بمناسبة حصولي على درجة الدكتوراه ما زلت أحتفظ به إلى الآن.
لقد منَّ اللهُ سبحانه وتعالى علي بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى خلال أيام البعثة، في السكن أكرمني الله بجوار عائلة على قدر كبير من الأدب والعفة والسلوك الحسن. وفي الدراسة تم تعيين مشرفة على مشروعي البروفيسور (سيلفيا لوتكنز) على درجة عالية من الطيبة والتمكّن في التخصص والتواضع على الرغم من أنها أحد تلاميذ عالم القرن وأستاذ الإحصاء اللا معلمي البرفيسور (ديفيد لندلي). مما أذكره عن هذه السيدة العظيمة أنها حددت لي ساعة لمقابلتها كل يوم جمعة لعرض ما قمت به من عمل خلال الأسبوع، وكان وقت المقابلة في الفترة (12-1) ظهراً تماماً وقت صلاة الجمعة، في الأسبوع التالي وإذا بها تقوم بتغيير الوقت إلى الفترة (10-11) صباحاً بعد أن نما لعلمها عن موعد صلاة الجمعة. هذه الأحداث وغيرها تجعلني أتذكّر دعاء ستي وتاج راسي الوالدة الحبيبة -حفظها الله برعايته-، فقد كانت دائماً تدعو لي وأنا على مشارف السفر: «ربي يجعل لك يا ابني رفيق في كل طريق». وتزيد -حفظها الله-: «الله يردك مجبور الخاطر». وببركة دعائها -حفظها الله - لا أعرف أني كنت في موقف صعب والحياة لا تخلو، إلا وكان فضل الله على عظيم. خلال تشرّفي بقيادة أعرق جامعة تقع في أطهر البقاع بهمومها وغمومها، لا أتذكّر أني بدأت يومي قبل المرور والنظر في وجه ستي الوالدة لأقبل رأسها ويديها ورجليها.
أحب هنا أن أقول للأبناء والبنات: «عليكم ببر الوالدين فوالله إن دعوة منهما تفتح لكم أبواب التوفيق والنجاح ما لا تبلغونه بجهودكم مهما عظمت». لأن الواحد منكم يحصد ثمار برّه بوالديه في الدنيا قبل الآخرة، وإن كان أجر الآخرة أعظم.
قال الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء الآية (23): {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.