محمد آل الشيخ
عندما اخترع الألماني غوتنبيرغ في منتصف القرن الخامس عشر آلة الطباعة، نتج عن هذا الاختراع العظيم انتشار الثقافة والوعي بين الأوروبيين، وكسر احتكار الكهنوتية الكنسية للعلم، وأصبح الكتاب المقدس القديم والجديد ميسراً للعامة، في حين أنه كان قصراً على قسيسي الكنيسة، ورجال اللاهوت؛ ومكّن للمصلح الألماني اللاهوتي مارتن لوثر من نشر أفكاره النقدية والإصلاحية في المجتمعات الأوروبية، من خلال الكتب المطبوعة، التي كانت متاحة للجميع وليس للكهنوتيين فقط.
كانت هذه الإصلاحات التي مهدت لعصر الأنوار قد ساهم فيها مساهمة جوهرية اختراع المطبعة، وكانت بمثابة (الثورة المعرفية الأولى) كما يقول كثير من مؤرخي الحضارة الغربية. غير أن الإمبراطورية العثمانية التي كانت غارقة في الظلام، والتي كانت تحتل أغلب الحواضر العربية والإسلامية، قد أصدر فقهاؤها فتوى بتحريم آلة الطباعة هذه، واعتبارها آلة شيطانية، قد تؤدي بالمصاحف وكتب العلوم الإسلامية إلى العبث والتزوير.
لهذا تأخرت المطبعة عن دخول العالم العربي والإسلامي، وبقي الظلام والتخلف مخيماً على بلدان الإسلام، لذلك لم يواكب العرب والمسلمون عصر الأنوار، وأعاقت هذه الفتاوى المتخلفة، العرب من الاستفادة من التقدم والحداثة التي اكتنفت كل مناحي الحياة في البلاد الأوروبية بسبب المطبعة.
غير أن الثورة المعرفية الثانية، والتي تمثّلت في الاتصالات والإنترنت، والتي نعاصرها هذه الأيام، فجرت كل الحدود وسحقت العوائق في وجه الإنسان العربي لكي يطلع على العلوم والاختراعات والاكتشافات العصرية التي تجري في تلك البلدان الحديثة بسرعة فائقة، وأصبحت المعلومات مثل الطيور المهاجرة، لا تقف عند حدود الجغرافيا، وتنتقل بين القارات كما تريد، ولا يستطيع كائن من يكون التحكم فيها أو منعها.
مشكلتنا العويصة والخطيرة في نفس الوقت أن رجال الدين -للأسف- ما زالوا لم يستوعبوا هذا التغير النوعي في الحياة الواقعية، في عصر ما بعد اكتشاف الإنترنت، ويصروا في أساليبهم ومناهجهم وخطاباتهم على ما كان الأقدمون يتعاملون به مع العلوم، بينما أن (الهاتف الجوال) الآن يستطيع في ثوانٍ أن يوفر لك المعلومة، ومن بحث فيها، ومن كتب عنها، كما أن هناك دعوات خطيرة من شأنها تشكيك المسلم في عقيدته، وتثير من التساؤلات ومن الشبهات ما هو كفيل بزلزلة ثوابته الإيمانية، والتأثير على هويته.
ونحن إذا لم نتعامل مع هذه الغزوات الفكرية الإلكترونية بعقلانية وموضوعية، فيجب أن ننتظر متغيرات قد يكون لها أعمق الآثار السلبية في ثوابتنا، خاصة ثوابتنا الدينية.
العقل اليوم والعقلانيات لا يمكن أن نقصيها البتة كما كان السلف يفعلون في الماضي، فحضارة العصر حضارة عقلانية، وعلوم اليوم تقوم وتتكئ على العقل، ومن يتابع وسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، سيجد فيها من الطوام الإلحادية وخوارم الأخلاق والمروءة ما يزلزل، ليس أذهان صغار السن فحسب، وإنما كبار السن والمتعلمين أيضاً؛ أضف إلى ذلك تمرير الأفكار السياسية المشبوهة التي من شأنها هز أمن المجتمعات واستقرارها.
نعم الإنترنت خدم العلوم الإنسانية خدمات جليلة لا يمكن لأي عاقل أن يتجاوزها، لكن له -أيضاً- آثاراً سلبية لا يجب أن نغض البصر عنها، بل يجب أن نعمل ما أمكننا على مواجهتها.
إلى اللقاء