خالد بن حمد المالك
أيقظني من نومي رنين الهاتف بعد منتصف الليل، وكان على الخط من ينعى لي أخي وزميلي وصديقي الغالي محمد بن عبدالله الوعيل (أبو نايف)، وبقيت إثر تلقي هذا الخبر المفجع شارد الذهن، أستعيد شريط الذكريات عن الرجل الإنسان والقدوة الصحفية، وقد جمعتنا الحياة بهدوئها وضجيجها، بحلوها ومُرها، على مدى أكثر من نصف قرن، في الداخل والخارج، في العمل وخارج العمل، وبالعلاقات الشخصية والرسمية.
* *
كان أبو نايف شخصية غير عادية، ونموذجًا إنسانيًّا لا يتكرر إلا نادرًا، فيه الكثير من النبل ودماثة الأخلاق، والتواضع، وإنكار الذات، واحترام الغير، والنأي بنفسه عن المشاركة في أي كلام لا يرتقي إلى السقف العالي من الكلام الجميل المحبب لدى الأسوياء من الناس. وبصفاته هذه كسب الفقيد محبة الجميع، واحترام كل من تعرّف عليه أو اقترب منه؛ ليكون أصدق تعريف له أنه الرجل النقي بلا خصومات أو عداوات.
* *
كان يزعجه كثيرًا حين تخرج المنافسات الصحفية بين الزملاء بحكم طبيعة العمل عن سياقها المطلوب والصحيح، وكان تفاعله يجيء بمنزلة حمامة سلام؛ يقرّب المسافات، ويوحّد وجهات النظر، ويعمل على طي الخلافات، ويقود مبادرات إنسانية وأخلاقية وإخوانية؛ لكي لا يمتد أي خلاف إلى القطيعة، أو خروجه عن دائرة التحكم فيه. وللفقيد في هذا أسلوبه؛ إذ ينقل لكل طرف عن الآخر ما يبرد الأجواء، ويعيد الصفاء، ويطفئ نار الخلافات.
* *
هذا بعض محمد الوعيل، الذي بدأت علاقاتنا معًا منذ بواكير شباب كل منا. وقد وجدت فيه ما حببه إلي، وحببني إليه. وما يميزه أيضًا أنه لا يضع نفسه منحازًا لهذا الزميل دون آخر، أو يكون صاحب موقف مساند ومعاضد لهذا دون ذاك؛ فأخلاقياته وبُعد نظره تجعله يقف على مسافة واحدة من الجميع؛ فلا تسمع منه إلا الكلمة الطيبة، والحديث الممتع، والتواصل مع الجميع كلما كانت هناك مناسبة. وقد امتد هذا الأسلوب، وهذا الخلق، وهذا المستوى من التواضع إلى أبنائه؛ إذ كان في نهجه مدرسة رائدة؛ تعلّم الأبناء الشيء الكثير منها، حيث التربية الصالحة، وزرع القيم النبيلة.
* *
في العمل كنتُ أرى في محمد الوعيل الصحفي النابه الذي يجيد التعامل مع كل التخصصات، مع تميُّز بفن أسلوب إدارة العمل، وقدرته على كسب الزملاء إلى جانبه في إثراء الصحيفة بكل مقومات النجاح والانتشار. ولأن هذا كان انطباعي عنه، وكان هذا طبعه، فقد استقطبته للعمل متفرغًا بصحيفة الجزيرة ليعمل إلى جانبي سكرتيرًا للتحرير إلى أن تقلد آخر عمل له بالصحيفة نائبًا لرئيس التحرير قبل انتقاله إلى صحيفة المسائية ليكون رئيسًا لتحريرها، وبعد ذلك رئيسًا لتحرير صحيفة اليوم.
* *
عمل محررًا رياضيًّا، ومحررًا فنيًّا، ومسؤولاً عن صفحات المحليات والتحقيقات، وغيرها كثير، لكن من أشهر أعماله الصحفية إعداده لصفحات (ضيف الجزيرة) التي امتدت على مدى سنوات طويلة، وكان يقدم فيها الرموز والرواد والمشاهير وذوي التميز من المعمرين من المواطنين، وفيها يضع هؤلاء أمام القارئ؛ ليقدموا له تجاربهم وخبراتهم وآراءهم، حتى أنه أمام اهتمام القراء قام بإصدارها كموسوعة تحت عنوان (شهود على العصر)، وطبع منها ستة مجلدات، وما زال هناك بقية تحتاج إلى طباعتها؛ لتستكمل الموسوعة، ولعل دارة الملك عبدالعزيز تبادر بذلك؛ فهذا العمل فيه الكثير عن تاريخ المملكة الذي يجب أن يوثَّق.
* *
لقد فقدنا هذا الرجل الإنسان، والزميل الحبيب، لكننا لن ننسى أبدًا ما كان عليه فقيدنا محمد الوعيل من مُثل خليق بنا أن نقتدي بها، ونتعلم منها، ونحاكيها، ونضعها بين شبابنا دروسًا في حسن التعامل، ومداراة الحياة بما يسعدنا، ويفرحنا، ويبعدنا عن كل ما هو خلاف ذلك.
رحم الله أبا نايف، وجعله في جنات النعيم، وألهم زوجته وأبناءه وبناته وأحفاده وأفراد أسرته الصبر والسلوان.