د. احمد سالم بادويلان
قبل أربعين عامًا زرته في مكتبه بجريدة الجزيرة في الناصرية وكان عمري وقتذاك 22 عامًا وكنت قبل لقائه أرسل له مقالاتي التى أسلمها للاستقبال وأذهب وكان ينشرها لي في صفحات «الجزيرة» العامرة.
وذات يوم وصلتني رسالة من الجزيرة موقعة باسمه ومرفق معها شيك بألفي ريال مكافأة لي على مجموعة من المقالات التي نشرت في الجريدة.
كانت سعادتي لا توصف حينها، لأنني كنت أعد نشر مقالاتي هو أكبر تقدير لي فقررت أن أزوره وأشكره على ذلك وكان ذلك لقائي الأول بالأستاذ والزميل محمد الوعيل الذي عاش كبيرًا ومات كبيرًا. والذي فجعت بفقده وحزنت حزنًا عميقًا وبكيت كالطفل عندما علمت برحيله وكنت أرغب في زيارته قبل يومين من وفاته إلا أن ابنيه نايف ومشاري قالا لي: سوف يطلع من المستشفى بعد يومين ونفضل أن تزوره في البيت فوافقت، لكنه رحل قبل أن أُكحل عيني برؤيته.
رحمك الله يا من يشهد لك جميع من عرفك بطيبة قلبك وحبك للجميع وعمل الخير والسعي فيه..
أعود للقائي الأول به سلمت عليه وعرفته بنفسي، فقام من كرسيه واحتضنني وكأنه يعرفني منذ سنين وقال لي وأخيرًا شفناك يا بادويلان بعد مراسلات كثيرة واحتفى بي أيما احتفاء وأشعرني بأن لي قيمة ومكانة ومن فوره عرض علي العمل متعاوناً في «الجزيرة» بمكافأة شهرية وافقت فوراً ومن حينها بدأت رحلتي مع الصحافة التي استمرت ربع قرن متفرغًا.
وحينما عين رئيسًا لتحرير جريدة المسائية قال لي: أريد أن أخصص صفحة لربط المحتاجين بالقادرين على البذل والعطاء وكلفني بإعداد الصفحة والإشراف عليها واسميناها (لا تيأس)، نشرنا فيها العديد من الحالات الإنسانية وقد طلب مني أن أعاهده بالتحقق من مصداقية تلك الحالات وستر أصحابها وعدم فضحهم وكذلك عدم ذكر أسماء المحسنين إلا إذا كانت تلك رغبتهم وفعلاً حققت له رغبته وقد استطاعت تلك الصفحة علاج كثير من الحالات المرضية وشراء بيوت لأيتام ومحتاجين وتخصيص رواتب لبعض الحالات المحتاجة بفضل الله ثم نيته الصادقة بأن يكون ذلك العمل خالصاً لله، ثم بدعم المحسنين من أهل هذا البلد الطيبين.
وقد جمعت عديداً من تلك القصص ونشرتها بدون أسماء في كتاب أسميته (لا تيأس) وقد صدرت منه عدة طبعات وجعلت اهداء الكتاب له رحمه الله.
وحكى لي ذات مرة أنه اشترى لأحد الزملاء بيتاً على أن يسدده على دفعات، لكن هذا الزميل لم يسدد إلا شيئًا يسيرًا، فقال لي: لن أطالبه بالسداد، إن سدد فبها وإلا فإني مسامحه.
ما أنبلك وأطيبك يا أبا نايف رحمك الله..
ومن الصدف أيضاً أنني ودعت الصحافة متفرغًا بمغادرته جريدة الجزيرة وتعيينه رئيسًا لتحرير جريدة اليوم في الدمام، بعدها تفرغت للنشر من خلال دار طويق للنشر والتوزيع وأسهمت معه في إصدار سلسلة شهود هذا العصر، الذي جمع فيه سلسلة لقاءاته الشهيرة (ضيف الجزيرة) وصدرت منها ستة مجلدات، ثم توقفت عن النشر لأنها انهكته مالياً لعدم وجود عائد مادي مجزٍ من نشرها وكان هدفه غير ربحي، حيث كان يسعى إلى حفظ هذا التراث الصحفي لرجالات خدموا الوطن وقدموا من أجله الغالي والنفيس وأرجو أن يسخر الله من يكمل حلمه في جمعها سواء كانت جهة اعتبارية أو أحد الموسرين.
وذات يوم قبل خمس سنوات اتصل بي وقال لي: أريدك تمرني أحدثك عن مشروع إعلامي أحلم به، فتقابلنا وقال لي: أرغب في إصدار صحيفة إلكترونية خيرية غير ربحية الهدف منها نشر أخبار ونشاطات ومبادرات المؤسسات والجمعيات الخيرية والتطوعية لتشجيعهم على عمل الخير والاستمرار فيه واطلاع المجتمع على ما يقدمونه من خدمات إنسانية وخيرية، وأريدك تكون معي في هذا المشروع النبيل فلم أتردد في الموافقة متطوعًا.
وصدرت الجريدة واختار لها -رحمه الله- اسم (ليل ونهار) وقدم كثيراً حتى أنهكته مصاريف الجريدة وبحثنا عن داعمين ولم نوفق إلا بالدعم المعنوي وهذا لا يكفي للاستمرار ورغم ذلك كان يصرف عليها حتى آخر يوم في حياته (حسب علمي).
كنت أتمنى أن أختم مقالي هذا بتعديد مناقبه وصفاته، لكن وجدت الناس ومن خلال اطلاعي على ما كتب عنه في تويتر ليلة وفاته يعرفون عنه أكثر مما أعرفه عنه وأنا أعد شهادتي فيه مجروحة لأنني جزء منه.
ولا أملك في الختام إلا أن أدعو الله أن يتغمده بواسع رحمته وأن يدخله جناته وأن يلهم أبناءه وبناته وأحفاده وزوجته واخوانه ومحبيه الصبر والسلوان على فقده و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.