عمر إبراهيم الرشيد
كنتُ قد تناولت هنا شذرات من تاريخ العبودية وإبادة الهنود الحمر، شعب أمريكا الأصليين، بإيجاز، وحسب ما يتيحه المقام، وأشرت إلى أعمال أدبية عديدة، هي في الأساس قصص حقيقية، شأن مئات من الأعمال الأدبية، وهل الأدب إلا مرآة للحياة. وهنا أعرض بإيجاز عملاً أدبيًّا حقيقيًّا، هو مذكرات لعبد مملوك سابقًا، استطاع الهرب من مالكه من أمريكا إلى كندا، وبدء حياة جديدة هناك، فكتب سيرة حياته، ووثق سنوات عبوديته ثم حريته. أكتب مقالاتي عن هذه القضية لأننا شهدنا - وما نزال - حملات أمريكية وغربية بخصوص (حقوق الإنسان)، وآخرها تقرير وكالة المخابرات الأمريكية عن مقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي -رحمه الله تعالى-، وهو تقرير لم يخلُ -بالطبع- من ادعاءات السعي للعدالة والحقيقة وحقوق الإنسان، والمملكة قد أعلنت إغلاق القضية بعد إتمام إجراءاتها الحقوقية والشرعية، لكنه الابتزاز والضغط من قِبل لوبيات معروفة، ولها أجنداتها السياسية في واشنطن.
جوسايا هنسون واحد من عشرات الألوف ممن تم أَسْرهم من دول الساحل الغربي الإفريقي في القرن السادس عشر للعمل في حقول التفاح والذرة والتبغ ومشاريع البنية التحتية في أمريكا. وُلد جوسايا في العبودية، وتحديدًا في بورت توباكو بولاية ميرلاند الأمريكية عام 1789م، وبعد العمل أربعة عقود من الزمن عند سيده بكل جد وتفانٍ ارتأى الهرب والنجاة بنفسه بعد أن أدرك أنه سيباع بالرغم من إخلاصه وتفانيه في العمل، فاستقر به المقام في كندا العليا (أونتاريو حاليًا)، وذلك عام 1830م. أتاحت له حياته الجديدة وحريته العمل مستقلاً مع من فرّ من أقرانه، فاشترى قطعة أرض في مقاطعة «كنت» الكندية، وعمل فيها مع رفاقه البالغ عددهم خمسمئة هارب من العبودية في الزراعة وتحقيق الاكتفاء الذاتي وتجارة الأخشاب، ثم تصديرها إلى أمريكا وبريطانيا. وبعد الاستقرار والاكتفاء والعيش الكريم أصبح جوسايا واعظًا دينيًّا لأقرانه، وهو القارئ المثقف، فكان أن ألّف كتابه الأول تحت عنوان (سيرة جوسايا هنسون: عبد سابق.. كما رواها بنفسه) وذلك في 1849م، ثم أعقبه بكتاب آخر تحت عنوان (الحقيقة أغرب من الخيال.. قصة الأب هنسون) عام 1858م، وثالث عام 1876م بعنوان (قصة حياة العم توم، سيرة ذاتية)، وهو رد اعتبار أدبي؛ لأن مؤلفة رواية (كوخ العم توم) هارييت ستو التي أصدرتها عام 1852 إنما هي مستوحاة من مذكرات جوسايا هنسون نفسه، فأراد أن يعرف الشعب الأمريكي ومعه العالم تلك الحقيقة.
وكما ذكرت في مقالات عديدة سابقة، فإن تأسيس أمريكا إنما كان بإهدار دماء سكانها الأصليين؛ فقد أباد المستعمرون الجدد ما ينوف على عشرين مليونًا منهم، وتم جلب عشرات الألوف من الأفارقة - كما ذكرتُ - لزراعة الحقول مترامية الأطراف، وبناء أطول سكة حديد في العالم التي تمتد من الساحل الشرقي إلى الغربي من أمريكا، التي مات أثناء بنائها الألوف منهم إنهاكًا. ولا بد من التعريف وإنعاش الذاكرة بهذه الحقائق؛ كي لا تعمي صورة أمريكا البراقة عنها؛ لأنها وإن كانت من الماضي إلا أن لها تبعات وتأثيرًا في الوعي واللاوعي الأمريكي العام. إلى اللقاء.