د. حمزة بن فهم السلمي
تغيّرت اليوم طبيعة الصراعات في العالم وأصبحت الدول الكبرى توظف «حماية حقوق الإنسان» للتدخّل في شؤون الدول، والمساسِ بسيادتها، والضغط على حكوماتها لصالح أجنداتها وأطماعها السياسية والاقتصادية. وتعمد هذه الدول، وعلى رأسها الولاياتُ المتحدة «الجديدة»، إلى استخدام مفهومي «الديمقراطيّة» و»حقوق الإنسان» كورقة ضغطٍ لابتزاز غيرها من الدول. وعلى هذا النحو يتم اليوم إسقاطُ بعض مبادئ القانون والعلاقاتِ الدوليّةَ وخاصّة منها احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها، واستقلاليّة قرارها وقضائها. وفي ظل هذه الأجواء تهاوى مبدأ السيادة، وشهد خروقات كثيرةً تُقدّم لها المبرِّرات القانونية والأخلاقية المتنوعة، وتتجنّد للدفاع عنها منظّمات دوليّة وحقوقيّة ووسائل إعلام عالمية.
ولعل نشر وزارة الخارجية الأمريكية لتقرير المخابرات عن جريمة قتل الصحفي السعودي رحمه الله، وكل ما ورد فيه من ادعاءات واتّهامات باطلة أحسن دليل على ذلك. فقد جاء هذا التقرير مبني على عبارات تشكك في صحته، من قبيل «نقدر، نتوقع، نظن، من المحتمل، لا نعرف» ولا يوجد فيه أي دليل ولا أي معلومات أو شهادات تؤكد الادعاءات الأمريكية، بل يثير هذا التقرير تساؤلات عديدة حول ضرورة وجود مصداقية وشفافية عالية لمثل هذه التقارير التي تصدر من أكبر مؤسسة أمنية في العالم، ويفترض أن يحظى بدرجة عالية من الدقة وعدم الارتهان للادعاءات والاستنتاجات الظنية، وهو تقرير يسيء لمصداقية السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم ويمثل تجاوزا لكل مقاييس احترام العلاقات الدولية وحدود التعاملات واستغلال لشأن داخلي بهدف تحقيق غايات دنيئة، وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع الأنظمة والقواعد الدولية.
لا شك أن العرف السياسي والدبلوماسي يجعل من التدخل في الشؤون الداخلية للدول أمراً مرفوضاً، ومساساً بسيادة الدول. والمملكة العربية السعودية تكرس هذا المفهوم دوماً عبر خطابها السياسي، ودائماً ما تمثل النقطة المشرقة في الوطن العربي؛ تبنّت منذ البدء، سياسات واضحة المعالم والاتجاه؛ حيث أرسى الملك المؤسس عبد العزيز، طيّب الله ثراه، دعائمها على القيم والمبادئ العربية والإسلامية، والتمسك بالشرعية الدولية، واحترام سيادة الدول واستقلالها، ورعاية حقوق الإنسان وعدم التدخل في شؤون الآخرين. وهي اليوم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - تقف قوية شامخة معتزة بتلاحم قيادتها مع شعبها. إنّ المملكة العربية السعودية دولة ذات سيادة تامة كما جاء في المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم، تستمد سلطتها من القرآن الكريم والسنة النبويّة وتؤمن باستقلال القضاء؛ ولا تسمح بالتدخل في أحكامه، ولا في الشأن الداخلي لها.
إن من الغريب أن تتناسى إدارة الرئيس الأمريكي ما ارتكب فوق أرضها من جرائم ضد الإنسانية وضد الأقلية الأمريكية السوداء والهنود الحمر وغيرهما من الأقليات، وجرائم الإبادة في فيتنام، والخراب والدمار للموروث الحضاري والإنساني والثقافي والتنموي في أفغانستان والعراق وسورية وفلسطين، وما فعلت بمعتقلي جوانتنامو وأبو غريب وسكتت عن جرائم إيران والانقلابيين الحوثيين في اليمن، وتركت كل الجرائم التي سجلها التاريخ في حق أمم وشعوب وجماعات وأفراد لتنبش في قضية الصحفي السعودي التي عالجها القضاء السعودي المستقل في محاكمة عادلة حضرها ممثلون عن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وتركيا والمنظمات الحقوقية السعودية، وأسرة المجني عليه، وطبقت فيها معايير الشفافية والنزاهة والحياد وصدرت فيها أحكام صارمة، باركتها أسرة الصحفي والشعب السعودي.
إنّ أسباب الهجمة على المملكة عديدة وأهمها أن القيادة السعودية قررت الانطلاق بمشاريع عملاقة للتنمية في كافة الحقول العسكرية والصناعية والاقتصادية والتكنولوجية والسياحية وغيرها، مما سيجعل المملكة مستقبلاً في مصاف الدول الكبرى ويحررها من محاولات الدول الغربية فرض الهيمنة والنفوذ والتبعية في المجالات المختلفة، ومن الابتزاز الذي تمارسه الإدارات الأمريكية المتعاقبة والذي ترفضه القيادة والشعب السعودي.
كما أنّ ما تتعرض له المملكة هو نتيجة لمواقفها المشرفة، والصادقة مع قضايا الأمة العربية والإسلامية وأدوارها الريادية في استقرار المنطقة والعالم، وخاصّة دورها في مكافحة المد الفارسي والإرهاب والتطرف بكل أشكاله.
كما أنّ الهدف من التقرير أيضا ممارسة الضغط على السعودية لتحصيل مكاسب تستطيع من خلالها الإدارة الأمريكية الحالية شراء لوبيات حقوق الإنسان المتخصصة في رصد نجاحات السعودية واستهداف رؤيتها ومشروعها التنموي والاقتصادي الضخم. ولقد أخطأت إدارة الرئيس الأمريكي في تقديراتها السياسية والدبلوماسية ولم تتعلم من التاريخ آليات تعامل المملكة مع مثل هذه المواقف ومنها طرد الملك فهد رحمه الله للسفير الأمريكي عندما حاول التدخل في شؤون المملكة وكذلك السفير الكندي في عهد الملك سلمان. لذلك على إدارة الرئيس الأمريكي تدارك هذا الخطأ الجسيم في حق سياستها الخارجية والتفكير بضرورة التهدئة وإعادة الدفء لعلاقاتها الخارجية مع المملكة التي تمثّل حليفا استراتيجياً لها وتربطهما شراكة تاريخية قوية ومتينة من أجل ترسيخ أمن واستقرار المنطقة والسلم العالمي.
وأخيرًا نأمل أن يكون نشر التقرير بداية لإغلاق الملف نهائياً ووقف استغلاله خاصّة ممن استثمروا غيابه لكيل التهم للمملكة وقيادتها وتجاوز الشرخ وفتح المجال للتفاهم المشترك مع المملكة التي أثبتت دائما أنّها دولة تراعي حقوق الإنسان وتحترم الشرائع العدلية والدوليّة.
** **
- رئيس قسم القانون العام بجامعة جدة - أستاذ القانون الدولي والعقوبات الاقتصادية