عبدالرحمن الحبيب
سبق للعالِم الفلكي فرد هويل أن رفض النظرية القائلة بأن الكون قد نشأ نتيجة انفجار كوني بدائي، بل إنه أطلق عليها مستهزئاً «الانفجار الكبير» في مقابلة إذاعية عام 1949. المفارقة الساخرة أن هذا المصطلح التهكمي قد لصق بهذه النظرية وصار من أكبر العناوين في علم الفلك، رغم كونه لا يعبر جيداً عن فحوى النظرية، وحتى عندما جرت محاولة لاستبداله بمصطلح أفضل عام 1993 وعقدت مسابقة للتوصل إلى مصطلح أكثر تعبيراً، وبلغت المقترحات نحو ثلاثة عشر ألف محاولة تضمنت مقترحات عجيبة مثل «تجشؤ بوذا» و»فقاعة هابل» على اسم الفلكي إدوين هابل. رغم كل هذا العناء لم يفز أحد بالمسابقة. وقد أوضح كارل ساجان، عالم الفلك المشهور والحكم في المسابقة، أن السبب: لم يفلح أي من الإدخالات في تحسين «الانفجار الكبير»، وهي الكلمات التي ظهرت في عنوان نعي هويل بصحيفة لوس أنجلوس تايمز كإطراء له!
هذا ضمن ما جاء في كتاب جديد بعنوان The Hidden History of Coined Words (التاريخ الخفي لصياغة الكلمات) لمؤلفه الكاتب الأمريكي رالف كيز الذي يعد أحد أشهر المراجع في الموضوع، وهو نفسه مبتكر مصطلحات ذات أبعاد عميقة مثل عبارة «ما بعد الحقيقة»(post-truth). الكتاب مليء بالاكتشافات الطريفة والمدهشة حول أصول مصطلحات وتعبيرات وكلمات معينة عبر أسلوب جذاب ليس فقط للمتخصصين وهواة فكر اللغة بل حتى لكافة القُراء.
يوضح الكتاب كيف أن صياغة الكلمات والمصطلحات الناجحة التي تبقى لفترة طويلة هي غالباً ما تكون لها بداية خفية عن مستخدميها، بينما نحن نتلقاها في ظاهرها ونادرًا ما ندرك ظروف المكان والزمان التي تمت فيها صياغتها لأول مرة.. ويختتم المؤلف كتابه بنصيحة حول كيفية صياغة الكلمة الجديدة الناجحة.
يكشف الكتاب بعض الأنماط العجيبة لنشأة المصطلحات الناجحة، فمنها ما ظهر عن طريق الصدفة أو الخداع أو الخطأ ومنها عن طريق منهجي محدد سلفاً، ومنا ما تولد بهدف مضاد لها كان الأصل فيها التصيد أو الاستهزاء كما جاء في مثال المقدمة ومثل مصطلح»الانطباعية» أطلقه عليها ناقد يسخر منها؛ ومنها ما تم أخذه خارج السياق تماماً مثل «الروبوتات»، وثمة أيضاً ما أنتجه العموم عبر الممارسة التلقائية مثل البرمجيات (سوفت وير) والمدونة والمنصة..الخ.على النقيض من ذلك، عندما يجتمع الأشخاص الجادون لنسخ كلمات لظواهر مهمة، فإنهم غالبًا ما يفشلون وفقاً للكتاب.
هذه الأنماط المختلفة لا بد أن تسبب جدلاً وخلافاً بين أنصار الكلمة الجديدة وأولئك الذين يقاومونهم بشدة، بل حتى من أطلقوا بعضها ثم انتشرت ومن ثم عادوا ليؤكدوا أن الكلمة لا تخدم المعنى لم ينجحوا في مسعاهم لتغييرها مثلما فعل كلايتون كريستنسن من هارفارد للأعمال الذي أعطى معنى جديدًا لمصطلح «الاضطراب» (disruption) في مجال الأعمال، كما عانى توماس كون من مصير مماثل مع «النموذج» (paradigm)، وهي كلمة قديمة أعاد صياغتها ونشرها على أنها «نقلة نوعية» في «هيكل الثورات العلمية»، واعتبرها في النهاية أنها فقدت كل معانيها.
كما هو الحال مع العملات المعدنية، تعتمد الكلمات الجديدة دائمًا على المواد الموجودة في الحياة اليومية وانتشارها التلقائي، وكثيراً ما يُشتبه في أنها لغة عامية غير مكتوبة. غالبًا ما تُشتق الكلمات الجديدة إما من التجارة (لأسباب تتعلق بالعلامات التجارية، مثل «النايلون» أو «السيلوفان») أو من الأدبيات العلمية، أو من الروايات والسينما، لكن حتى أفضل الأعمال الهوليوودية لا يمكنها تحديد ما إذا كان كاتب ما قد اخترع كلمة أو مجرد نشرها؛ خذ مثلاً «كوارك»، التي تشير الآن إلى نوع من الجسيمات دون الذرية، تأتي من قصة «FinnegansWake» لجيمس جويس. تميل بعض الصياغات إلى الاسترشاد بالصوت وليس المعنى؛ وفي بعض الحالات لا يعني مؤلفوها شيئًا منها على الإطلاق. الشعور بالمرح هو أحد الأسباب التي جعلت القصص المصورة، على وجه الخصوص، مصدرًا غنيًا للكلمات الجديدة، من «doofus» و»heebie jeebies» إلى «goon» و»jeep». (مجلة إيكونيميست)
لعل هذا يذكرنا بالقاعدة اللغوية المشهورة في اللغة العربية «لا مُشَاحَّة في الاصطلاح» لو حصل الاتفاق على المعنى والاختلاف في التسمية أو في اللفظ. وعلى هذا المنوال تتنافس كلمات: كمبيوتر، حاسوب، حاسب آلي.. وكلمات: إلكتروني، رقمي، سيبراني.. وهذه الأخيرة أقدمها حيث استخدمت في الماضي لدلالة كيفية تواصل الآلات والكائنات الحية مع بعض، رغم أنها حالياً أقلها استخدماً.
ومن أعجب الأمثلة التي نجدها في حياتنا اليومية قولنا «قارة أوروبا» رغم مخالفتها للواقع، فأوروبا جغرافياً تعد شبه جزيرة كبيرة حيث يلتصق جزؤها الشرقي بآسيا الممتد من أوراسيا بين جبال الأورال وجبال القوقاز، بينما تعرف القارة بأنها الأرض اليابسة الواسعة التي تزيد على الجزيرة. أما سبب تسميتها قارة فيرجع إلى مفهوم حدود القارة في العصور القديمة الكلاسيكية قبل التصنيف الجغرافي الحديث. كذلك مصطلح «الاستعمار» هو كلمة تلطيفية مخادعة للاحتلال الذي بدأته الدول الأوروبية في القرن السادس عشر الذي أطلق عليه أحيانا الاستيطان بزعم أنه يتم في أرض لا يوجد بها أحد..