يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (سورة العلق)
فالمرء يمتاز عن مخلوقات الله تعالى بأنه مخلوق قارئ، فالله سبحانه وتعالى يناشد كل إنسان منا أن يستفيد من معارفه وعلومه وقراءته وتفكيره وعقله أولاً حتى يصل إلى هدفه وغايته، وذلك بجهده المعرفي حتى لا يكون دخوله في الإسلام والإيمان مجرد قبول أو استسلام أو خضوع أو خوف فقط.
أما المرتبة الأولى في إيمان المسلم فتكون وفق منهج كتاب الله العظيم في التلاوة والقراءة، فاللِّسان العربي مبني على النَّظريات المعرفية - حيث إن القراءة تبدأ بتلقي المعرفة، سواء كانت معرفية حسية أو عقلية أو كلامية، حيث إن دماغ المرء يعمل على إدراكها ويعمل على فهمها.
فالفهم الحسي هو إدراك لمعرفة حسية، أما الفهم العقلي فهو إدراك لمعرفة عقلية، أما الفهم الكلامي فهو إدراك لمعرفة كلامية، والعقل هو بنية من المعاني السّامية كالحسية والعقلية والكلامية، ويقول المولى عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (سورة إبراهيم)، حيث إن لسان القوم كاشف عن مستواهم الفكري والعقلي والاجتماعيِّ متمثلاً في اللِّسان العربي المبين، حيث إن كتاب الله الكريم يهدف إلى بناء الإنسان المعرفي العقلاني المتعلم قبل أن يسعى إلى بناء عقله بالمعاني القرآنية والإسلامية حتى تؤهله أن يكون إنساناً متميزاً بالمعرفة والعقل والعلم.
فإذا كانت أقوال بعض الفلاسفة وبعض رجال العلم الشرعي يقولون إن الإيمان يقوم على التسليم والقبول والخضوع للمعجزات وخوارق العادات فقط.
فالواجب على كل إنسان مسلم أن يكون حذراً من قبول تلك المقولات، فهناك معايير وأوصاف معرفية في المناهج أمثال القراءة والفقه والفهم والتفكير والعقل وغيرها.
أما الأحكام أو الأوصاف المعرفية القرآنية فهي عديدة منها في مجال الإثبات: الصدق والعلم والحق والمبين واليقين، فهذه الأمور تتعلق بمجال الحكم، أما مجال الوصف السلبي: الكذب والجهل والخيال والشك والظَّن فهذه أمور تتعلق بمجال الوصف السلبي، فإن تعريف كلمة اليقين لغوياً هو زوال الشك، بينما يذهب الراغب الأصفهاني إلى المعنى الإيجابي بأن اليقين صفة العلم، وأن هذه الصّفة للعلم فإنها فوق المعرفة والدراية وأخواتها -وذكر الأصفهاني تميزاً مهماً في استخدام كلمة اليقين فقال: ((عِلْمُ اليقين ولا يقال مَعْرِفَةُ يقين)) ثم عرج إلى التعريف المعرفي، فعرف اليقين بأنه سُكُونُ الفهم مع ثبات الحُكم، وسكون الفهم معرفياً يعني سكون التفكير في مسألة ((ما))، ومع ثبات الحكم يعني أن الحكم لا ولن يتغير في هذه المسألة, وكأن المسألة أخذت حكمها المعرفي النّهائي، وبعد ذلك ذكر الراغب الأصفهاني أنواع اليقين بحسب تصنيف كتاب الله الكريم فقال: هناك - ((عِلْمُ اليَقِين)) و((عَيْنُ اليقين)) و((حق اليقين))، ومن خلاله ما ذكر آنفاً، فيجب على المرء أن يدرك تمام الإدراك أن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على كثير من المؤمنين الصادقين الَّذين أسسوا إيمانهم على اليقين بالمعنى المعرفي وليس بالمعنى التّسليمي فقط.
فقد مدحهم المولى «عزَّ وجلَّ» على مواقفهم المعرفية والعقلية والعلمية وابتعادهم عن الظَّن والشك في المسائل التي لا تتحمل إلا اليقين، وهي مسائل الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر.
والله الموفق والمعين.