صالح الخليفة
يمر على الفنان خلال حياته اليومية أشياء كثيرة وجزئيات صغيرة قد لا ينتبه لها، من خلال وجوده في البيت أو الشارع أو العمل أو السفر أو التنزه والسوق, قد تكون ذات أهمية له وغير مهمة لغيره. هذه الجزئيات البسيطة قد تكون عنصرًا واحدًا أو مجموعة عناصر تصلح نواة لعمل فني أو فكرة مبتكرة وغير مسبوقة قد تساعده للوصول إلى أسلوب يميز به نفسه، وتقوي أساسه الفني. تدوين هذه الجزئيات من خلال الرسم السريع (أسكتش) نظام مثالي أقرب للمحاكاة.
تدريب عينه على صيد واقتناص هذه الفرص التي قد لا تعود بسهولة. عندما يعوّد نفسه على تسجيل هذه الملاحظات سيكون عنده رصيد فني تقوي تجربته البصرية والأدبية. والمحاكاة عن أرسطو غريزة منذ الطفولة.
يقول هايدجر: يجب أن يكون الفنان قادرًا على رؤية شيء ما يبدأ في التبلور حيث لا يرى الآخرون شيئًا على الإطلاق. يجب أن يكون جميع المبدعين العظماء قادرين على تمييز الخطوط غير المكتملة لشيء لم يسبق رؤيته من قبل، كما لو كان يلعب دور القابلة في الوجود، يساعد في جذبه إلى نور العالم.
لنأخذ نموذج لوحة فان جوخ (الحذاء) رغم سخرية بعض الفنانين منه كيف لجوز حذاء يكون عملاً فنيًا يعلق في مكان مرموق, لم يدركوا أن هذا العمل أصبح شاهدًا على التاريخ. وفان جوخ نموذج مثالي لرصد الحياة اليومية وخصوصاً في الريف ومع حياة الفلاحين. وتحليل هايدجر للوحة (الحذاء) في كتابة (أصل العمل الفني) بأسلوب شعري: من خلال الفتحة المظلمة للحذاء البالي تبدأ خطى العامل المتعبة. من الثقل الوعر لزوج الأحذية هناك تراكم في الجرأة؛ جرأة المشي الثقيل في حقل واسع كنسته ريح صريحة. على جلد الحذاء تقبع رطوبة التراب ووفرته. تحت النعلين تنزلق وحدة الطريق بينما المساء يتقدم. في الحذاء يهتز النداء الصامت للأرض وهديتها الهادئة في نضج حبة القمح ورفضها غير المفهوم لذاتها وسط الخراب الساكن في الحقل الشتوي.يتخلل هذه الأداة قلق غير متذمر من الثقة بالخبز، ويتخللها مرح بلا كلمات من تجربة الثبات أمام الإرادة والارتعاد أمام سرير طفولة قريب اللحظة وأمام وعيد الموت. هذه الأداة تنتمي للأرض، وهي محفوظة في عالم الفلاحة (صاحبة الحذاء).
من خلال هذا الانتماء المصون تنهض الأداة «للبقاء في ذاتها» وتحليل شابيرو: «عندما رسم فان جوخ الحذاء قرر منحه شكلاً واضحاً ومحدداً وسطحاً مماثلاً لأسطح مواد الحياة الجامدة التي تعمد جوخ وضعها بالقرب منه، وهي القناني والسلطانية. في لوحة أخرى لحذاء الفلاح الجلدي، تعمد كوخ أن يرسمه بطريقة بحيث يكون جزؤه الخلفي مواجهاً للمشاهد. أما حذاؤه هو فقد وضعه في مكان منعزل على الأرضية بحيث يبدو الحذاءان وكأنهما في مواجهة إحداهما الآخر، وهكذا وفي ضوء المظهر الفريد والمتيبس والمتجعد للحذاءين، يمكن للمشاهد الحديث عنهما بوصفهما صوراً حقيقية لأحذية قديمة. وتحليل جاك دريدا: «ثمة نسق آخر من الخصائص المستقلة المميزة لا يكشف عنه كوخ بسهولة. هذه هي اللوحة النموذجية التي تعكس استرخاء الفنان وتمتعه بإعادة اكتشاف المألوف وتقديمه للمشاهد. هذا النسق ينفصل في نقطة ما ليجتمع ثانية في نقطة أخرى. وبستخدام خيط غير مرئي خفي يثقب قماش (كانفاس) اللوحة ويخترقها كما تثقب المقرنة الورق ومن ثم تخرج منه لتصير أجزاء القماش كُلاً متكاملاً مجسداً لروعة امتزاج العالمين الداخلي والخارجي للوحة، يجمع كوخ ما بين عوالمه الداخلية والخارجية في لوحة فنية ما زال معناها محل نقاش وجدل. من هذه النقطة فصاعداً، ولئن انتفت الحاجة إلى هذا الحذاء وقُضي بإهماله، فلأنه، أولاً، قد أُنتزع من الأقدام العارية التي كانت تنتعله ومن وسائل الانتفاع منه المتمثلة بمالكه ومستخدمه والشخص الذي يرتديه، وثانياً لكونه حذاء مرسومًا في لوحة مفيد ضمن إطارها وحدودها التي ينبغي التفكير بها بصيغ الألوان وخامة القماش والرباط الذي يدخل في ثقوب الحذاء. يمر الرباط مباشرةً عبر العُيينات (ثقب صغير في طرف ثوب أو حذاء يُدخل فيه الشريط) التي تتخذ شكل الأزواج المتقابلة التي يخترقها الرباط على نحو متعاقب ليظهر للمشاهد في جانبه الخارجي ويختفي في مقابله الداخلي. هل يعني هذا الظهور والاختفاء المتعاقب للرباط عبر ثقوب الحذاء في اللوحة دمجه جلد الحذاء بأنفاس الرسم؟ يخترق الرباط الثقب عبر العيينة المعدنية الحواف، وهو بذلك يخترق الجلد الذي صُنع منه الحذاء وقطعة قماش الرسم في آن.
ليخرج الفنان من مرسمه وينطلق إلى الحياة الحقيقية بين الناس وفي الشوارع سيجد هناك عالم آخر مختلف وسيجد مناطق صغيرة بين هذا الزخم جزئيات صغيرة لموضوعات عظيمة للرسم ونواة للوحات نابعة من عمق المجتمع وصادقة.