عبد العزيز الصقعبي
فتحت صندوقه القديم، هي تعرف أن كل الأوراق المهمة داخل هذا الصندوق، وهو لا يسمح لأحد أن يطلع على ما بداخله، حتى هي، زوجته التي عاشت معه أكثر من نصف قرن، تلك السنوات كانت تعج بالمتغيرات والمشكلات، وعلى الرغم من ذلك هي تشعر بالأمان، لأنها لم تره قلقاً طيلة حياته التي تجاوزت السبعين، هو مات وبقيت هي، أم وجدة، هي وحيدة الآن في ذلك البيت الصغير في ذلك الحي المنسي، حي عشوائي يلفظ أنفاسه الأخيرة في مدينة تكبر وتتغير، لا تزال حية، وتشعر أنها لديها القدرة على البقاء ومكابدة الحياة لسنوات، ولكن في ذلك البيت الذي لا تريد أن تغادره إلا للقبر، مثله، حاول أبناؤها وبناتها، منذ أكثر من ربع قرن أن ينهوا علاقتهم بذلك البيت الوضيع الطيني سابقاً والذي تم تجديده على مراحل ليتحول إلى بيت أسمنتي يحتمل تعاقب السنين، ذلك البيت الذي سكنه قبلهم أجدادهم، وامتلكوه بوثائق جمعت في ذلك الصندوق القديم الذي قررت أن تفتحه بحضور أكبر أبنائها، بعد موت صاحبه بعدة أشهر، هي قررت أن يكون ذلك بعد انتهاء العدة.
صندوق قديم في غرفة شعبية للنوم، وضع بركن بجانب دولاب خشبي أحضره أحد الأبناء منذ سنوات، كان من المفترض أن يحضر جميع الأبناء والبنات مراسم فتح الصندوق ومعرفة أسرار والدهم، ولكن جميعهم يعرفون أن ليس لدى والدهم أي سر، هم يعرفون أن ما بداخل الصندوق مجموعة أوراق تخص هذا البيت القديم، وربما بشتاً، هم يعرفون أن والدهم حفظ بعض سور القرآن الكريم القصيرة وفاتحة الكتاب واكتفى بذلك، لم يفكر أن يمحو أميته، لأنه لا يحتاج لذلك، هو يبصم ولديه ختم ربما موجود بالصندوق، عمله البسيط لا يتطلب أن يلم بالقراءة والكتابة، وكان يرضى بالقليل، هو مطمئن أن لديه ذلك البيت، ورثه من والده الذي ورثه من جده، لا يريد أن يعرف أكثر من ذلك، هنالك أوراق خاصة بالبيت، وأوراق أخرى لا يعرف ماذا كتب فيها، ولم يفكر أن يطلع أبناؤه عليها، لأنه بكل بساطة تعود على المكان شأن بعض جيرانه الذين وجدوا أنفسهم في ذلك المكان المنسي.
هو مات، مات فجأة، لم يصب بمرض، ربما كان مريضاً وهو لا يدري، وهي الآن وحيدة، تفتح الصندوق ليطلع ابنها على ما بداخله، هذا الابن الكبير الذي أصبح جداً، لم يبتعد كثيراً عن والده، اكتفى بتعليم بسيط أهله للعمل بوظيفة حكومية صغيرة، ليغادر الحي كأول المغادرين من تلك الأسرة، وليستقر في حي ليس ببعيد عن والديه، ولكن لا يتسم بالعشوائية.
استفاد من طفرة العقار وامتلك بيتاً، وكان عوناً لوالديه واخوته.
كانت تشعر أنه بمجرد فتح الصندوق ستنتهي علاقتها بكل ما هو ماض، لن تبقى في هذا البيت، هي الآن لا ترغب بالمغادرة، لديها خادمة أحضرها أحد أبنائها، ولكن يجب أن تنفذ ما يقرره ابنها الكبير الذي يجلس بجانبها على الأرض مقابل الصندوق القديم، هذا الابن سبق أن طلب من والده أوراق البيت ليتأكد من صحتها، ولكن الأب يعرف أن ذلك الحي بلا هوية، وجميع بيوته معرضة للإزالة في زمن قادم، وهذا في علم الغيب، هو يعرف أن علم الغيب عند الله، وهذا يبث بعضاً من الطمأنينة داخلة، فلا يفكر بمصير أبنائه السبعة، ولا مصيره لو حدث وطُلب منه اخلاء المنزل، ربما يتشبث بالأوراق الموجودة بالصندوق، ويطالب ببديل، ولكن هو لا يرغب ببديل، هو يدعو الله دائماً أن يعيش في ذلك الحي وتحديداً في ذلك البيت حتى آخر يوم من عمره، وقد تحقق ذلك، رحل وتركها، بيدها القرار، هي تمتلك ذكريات كثيرة في ذلك الحي منذ أن جاءت من قرية صغيرة، لتجد نفسها زوجة لرجل يسكن في حي قديم في مدينة صاخبة، شعرت أنها لم تبتعد كثيراً عن بيئة القرية، فهذا الحي وإن كان جزءا من مدينة كبيرة، ربما من المواقع القديمة بها، ولكن لم يتأثر الحي بالمدينة مطلقاً، بل أصبح في سنوات لاحقة، بقعة تشوه وجه المدينة الجميل، لم تكن هذه البقعة واضحة في أول أيامها بذلك الحي، ولكن مع الزمن عرف أنه من الأحياء العشوائية، وليست القديمة، لأن في القدم عراقة، وهذا الحي افتقدها، ابن تلك المرأة يعرف منذ سنوات أن عمر ذلك الحي قصير جداً، سيزال الآن أو لاحقاً، كان لا يريد أن ترتبط حياة والديه بذلك الحي، يريد أن ينتشلهما من الفناء، ولكن إرادة الله أن يرحل والده قبل الحي، هو لا يهمه الصندوق ولا ما بداخله، يعرف أن أمه تتوقع أن الأوراق التي بداخل الصندوق ستجعلها تبقى ولا تقدر أي قوة في الأرض أن تخرجها، ولكن لم يعرف أن بيت والده أوهى من بيت العنكبوت.