سهام القحطاني
لعل أول ما خطر في ذهني وأنا أقرأ عنوان كتاب الدكتور سعد البازعي «هجرة المفاهيم» توصيف الشاعر والناقد المغربي محمد السرغيني» هجرة المصطلح» وتوصيف الشاعر محمد بنيس لخاصية التناص «بهجرة النص»،كما ورد هذا المصطلح- هجرة المصطلح- في كتاب الدكتور يوسف وغليسي «إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد»، وهو يرى أن هذه الهجرة تقتضي تتبعاً للمصطلح حين يهاجر من بيئة لغوية «لها شروطها البنيوية و مواصفاتها الدلالية» إلى مُهاجر لغوي مغاير وملاحظة التغييرات الطارئة عليه حدا و مفهوما.
ولا شك أن هذا المقام ليس مجالاً لتقديم الفرق بين المصطلح والمفهوم.
وما لفت انتباهي أيضاً في العنوان هو الربط بين «حركة الهجرة» و»فعل التحول» وهو ما قد يجعلنا نكوّن استنتاجاً أولياً بأن المفهوم هو كيان فكري متغير لا متطور مقصوراً على نقل الدلالات بالزيادة أو الحذف وليس تجديداً خارج إطار الإضافة، وهو أمر قد لا يخلو من شبهة الأيديولوجية ولو في أبسط دلالتها، كما أنهما أمران قابلان للتوقع بسبب إجراءات مناهج الأدب المقارن، وهذا ما سنكتشف واقعيته من عدمها من خلال هذا الكتاب.
لعل الشائع سواء بالإدراك أو بالتفاعل والتطبيق بأن المفهوم كيان فكري في ذاته من خلاله تتشكل المعتقدات والمنظومات المعرفية، وهنا تكمن أهمية وقيمة المفاهيم في كونها سلطة قادرة على تشكيل وعي المجتمعات، كما أنها قادرة على تهديد سلامة هوية مجتمعات «الهامش الثقافي» وزعزعة أصالتها الثقافية، في حالة هيمنة «استيطان المفاهيم الأجنبية» أو ما يسميها البازعي «هجرة» ويعرفها بأنها «انتقال استيطاني، توطّن أو تبيّأ في مكان مختلف وضمن ظروف مختلفة»-19-.
لكن البازعي يعرض توصيفا آخراً لعملية الاستيطان تلك وهو توصيف «التبيئة»؛ ويرى أن هذا التوصيف يُشير إلى العمل القصدي «أي قيام أحد بتهيئة فكرة أو مفهوم أو عمل لكي ينسجم مع بيئة جديدة».
إذن فنحن هنا أمام توصيفين لفعل الهجرة تلك التوصيف الذي يعتقده البازعي «الاستيطان و الانتقال» و توصيف «التبيّئة».
ويفرق بينهما بأن الأولى غالبا ما تحدث بطريقة تلقائية لا تدخّل فيها، «فالقادم مضطر بالضرورة للتغيير لكي ينسجم مع البيئة الجديدة، مثلما أن البيئة الجديدة ...تحتاج لتعيد ترتيب نفسها إلى استيعاب الفكرة القادمة.»-20-
و الحقيقة أن الفارق بين التوصيفين لا يرقى لإحداث اختلافا في مفهومي التوصيفين ؛فحسبما أعتقد القصدية محققة وإن اختلفت إجراءات القصدية وكيفياتها وأدواتها.
إلا إن كان الأمر متعلقا بموقف المجتمع المستقِبل و كيفية توطين المفهوم المهاجِر.
كما يرى أن هناك عملية تفاعل بين المفهوم المُهاجِر و المجتمع الجديد له يتقاسم الطرفان تأثيرها بالاختلاف ،لنجد أنفسنا بين صورتين مختلفتين تؤكدان وجود الاختلاف ؛فما قبل الهجرة ليس كما بعد الهجرة سواء على مستوى المفهوم أو المجتمع المستقِبل له.
ولذا فالعملية التفاعلية الثنائية للمفهوم المهاجر و مجتمع الهجرة هنا لا تخلو من أثر سلبي تقوده السياقات التاريخية للعقل الجمعي للمجتمع المستقِبل، ولذا يذهب البازعي أن «انتقال الأفكار و المفاهيم» من سياقات ثقافية إلى سياقات ثقافية أخرى «ليست بالسهولة أو البراءة التي قد تبدو لبعض من ينظر في هذا الأمر ...في عالم يزداد اشتباكا وسرعة في انتقال الأفكار و المعارف»ص19 .
ولذا لا يسلم هذا الانتقال من إحداث ضجيج الخلاف و حينا يخلق مساحة للصراع،أو كما يقول البازعي «طالما أدت تلك الهجرة إلى سوء فهم للمفاهيم و أفضى سوء اختيارها إلى نتائج من الفوضى الدلالية، والارتباك الشديد في توظيف المفاهيم.»ص22 .
ويعلل البازعي لهذه الفوضى بسبب طريقة انتقال المفهوم المهاجر من سياق ثقافي إلى سياق ثقافي آخر وهنا يركز على «الترجمة» الأب الشرعي لهجرة المفاهيم، فهو يرى أن سوء الفهم أو سياسات المعرفة وخداع حاصلها، قد تضر بالمفهوم المهاجر وتسبب في الفوضى الدلالية.
يتوقف البازعي وهو يتحدث عن المفاهيم المهاجرة إلى طبيعة دلالة المفهوم ما بعد الهجرة، أو مسطرة القياس للحقيقة الدلالية للمفهوم قبل الهجرة وبعدها.
من خلال رأي هايدغر و رأيه هو: يذهب الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إلى أن المفاهيم المهاجرة تتعرض إلى تشويه «نقائها» أثناء الانتقال إلى سياق تاريخي جديد من خلال الترجمة وهو مذهب شاهد كما يقول البازعي «على أثر المفاهيم إذ تهاجر من بيئتها و على ما يعتري المفهوم نفسه من تأثر في مراحل انتقاله من مكان إلى آخر على النحو الذي يؤثر أيضا على البيئة التي يتم الانتقال إليها.»-22-
في حين يرى البازعي أن التشويه الذي يطرأ على المفاهيم المهاجرة هي حاصل «سوء الفهم في توظيف العديد من المفاهيم» وأن الاحتراز من ذلك التشويه يتم كما يقول البازعي عن طريق «الوعي بالدلالة الأصلية كطريق إلى تفاعل واعٍ ...وأخذ اختلاف البيئة في الاعتبار لإحداث تفاعل أكثر استجابة لطبيعة الثقافة التي ينتقل إليها المفهوم»-23-
وأثر المفهوم المهاجر لا يقتصر علي محمولاته الثقافية الأصلية فتأثير ثقافة المجتمع المستقبل له أو كما يسميها البازعي «توظيف الثقافة الأخرى»، قد يكون لها سلطة سواء أكان بسيط الأثر أو شديد التأثير و التي قد تُنتج مفهوما مناهضا للمفهوم المهاجر، ويعطي البازعي مثلاً لذلك «بمفهوم العدو» و المستشرق غولدتسيهر في القرن التاسع عشر.
ولاشك أن ثمة أسباب لحركة الهجرة الثقافية هذه، وآثار لهيمنتها على السياقات الثقافية المُضيِفة سأتطرق لها في جزء آخر إن شاء الله.