د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
تشرف كعب بن زهير بإلقاء قصيدته (بانت سعاد) بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنذ ذلك الوقت سارت بمِدحته الركبان وصار أولها مفتاح قصائد كثيرة، نقل لنا عبدالقادر البغدادي عن ابن السكيت أن «القصائد التي أولها (بانت سعاد) تزيد على خمسمائة قصيدة»(1). وقال أحمد الشرقاوي إقبال «لقد أصبحت بانت سعاد جزءًا من السيرة، فاهتم بها كتاب السيرة نصًا وإسنادًا وخبرًا بما فيه الكفاية. وتهمّم اللغويون والنحويون والأدباء بوضع الشروح عليها من بسيط ووسيط ووجيز ... وتولّع بها الشعراء معارضة وتخميسًا وتضمينًا، واستشهد بأبياتها أهل العربية في اللغة والنحو والبلاغة، وعُني بها طائفة من المستشرقين نشرًا ودراسة وترجمة إلى اللغات الأعجمية»(2)، وسمى لها ثمانية وسبعين شرحًا منها شرحان بالفارسية وشرحان بالتركية(3).
ويأتي أستاذنا العلامة سعد عبدالعزيز مصلوح فيجعل (بانت سعاد) عنوان رابع قصائد ديوانه (خطوات على الأعراف).
تبدأ القصيدة بما أصاب بلاده العزيزة مصر من بلاء نال عناصر جمالها، جمال شمسها ونيلها وناسها:
أنكرت شمسك يا بلادي
كَلْمى تَوَشَّــحُ بِالسَّــوادِ
ويتلوه بأربعة أبيات تلخص ما كان من إشراقها ومجدها، ثم يمضي إلى ما أنكره من أحوالها:
أَنْكَرْتُ نِيلَكِ مُقْشَعِرَّ الفَيْضِ مَسْلُوبَ القِيادِ
أَنْكَرْتُ شَعْبَكِ عَاصِبَ العَيْنَيْنِ مَصْفُودَ الأَيادي
أَنْكَرْتُ نَظْرَةَ طِفْلِكِ الْمَقْهورِ خابِيَةَ الرَّمـادِ
وَتَحَرُّقَ العَذْراءِ لِلْعُشِّ الْمُسَيَّجِ بِالـوِدادِ
وَتَوَكُّأَ الفاني على عُكّازَةِ الزَّمَنِ الْمُعادي
وفي تسعة أبيات يبين أن ليس هذا الإنكار إلا لما ابتليت به مصر من قامعي أحرارها وناهسي لحوم أهليهم وبائعي جماجم شهدائهم، الذين سلبوا خيراتها وباعوها بالقنابل والمقامع والعتاد ليعتو الجلاوزة الغلاظ تلبية لمعبودهم طاغية الأرض المتملقين له:
فَإِذا أَهَلَّ؛ فَطَلْعَةُ الْقَمَرِ الْمُطِلِّ على البَوادي
وإِذا استَذَلَّ؛ فَكُلّهُم جَرْوٌ تَحَفَّزَ لِلطِّرادِ
وَإذا اسْتَهَلَّ؛ فَدُوْنَهُ قَسُّ بنُ ساعِدَةَ الإيادي
ثم يخاطب مصر وهو في ترحله الذي يذكرنا بقول المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همو
يقول مستلهمًا أحرف اسم بلاده متلذذًا بذكرها:
يا مِصْرُ! حُبُّكِ فِي التَّرَحُّلِ مَوْرِدِي، والعِشْقُ زادي
الميــمُ مُبْتَدَأُ الهَـوى، ولِراءِ رُجْعاها مَعادي
والصَّادُ مَوْصولٌ بِها صَبْرُ الغَريبِ على البِعادِ
ويتلو ذلك بجملة أبيات يستنهض بها بلاده، ثم يخاطبها خطاب المتيّم اليائس من معشوقته التي طالت غربتها:
يا مِصْرُ!! حَسْبُكِ في الهوَى قَبْضُ الْمَشوقِ على القَتادِ
وَلِرَجْعَةِ الزَّمَـنِ الجَميل، وَسَجْعَةِ الطَّيْرِ الشَّوادي
«مِصْرُ التي في خاطري»(4)، «أَقْسَمْتُ باسْمِكِ يا بلادي»(5)
ولكن اليأس يبلغ مبلغه حين يقرر بينونة بلاده في نهاية القصيدة:
بانَتُ سُعادُ، وَقَلْبُكَ الْمَتْبولُ تُيِّمَ في سُعادِ
أَسْمَعْتَ إذْ نادَيْتَهــا، كُلُّ الحيــاةِ لِمَنْ تُنادي
هكذا كانت مصر ليلاه في العشق، وكذلك سعاده التي بانت بما آلت إليه أحوالها.
... ... ... ...
(1) عبدالقادر البغدادي، حاشية على شرح بانت سعاد لابن هشام، 1: 169.
(2) أحمد الشرقاوي إقبال، بانت سعاد: في إلمامات شتّى، ص7.
(3) أحمد الشرقاوي إقبال، بانت سعاد: في إلمامات شتّى، ص35.
(4) قصيدة كتبها الشاعر المبدع أحمد رامي، ولحنها رياض السنباطي، وغنتها كوكب الشرق أم كلثوم.
(5) نشيد كتبه محمود عبدالحي، ولحنه وغناه الموسيقار محمد عبدالوهاب.