تدشين وتشكيل اللجنة العليا للبحث والتطوير والابتكار يعطي انطباعاً على التوجه القادم في السعودية، وهو إعطاء قيمة عليا للبحث والتطوير والابتكار كداعم حقيقي للاقتصاد الوطني. وحينما تمر علينا كلمة ابتكار أو اختراع، يتبادر إلى أذهاننا توماس أديسون وتيسلا وغراهام بيل وغيرهم ممن كان لاختراعاتهم الدور الكبير في مسار الكثير من العلوم وكذلك نواحي الحياة المختلفة.
ومع أهمية هؤلاء المخترعين، إلا أن هناك دوراً كبيراً لوسائل الإعلام المختلفة في ربط ودوام تلك الأسماء في مخيلتنا حينما تأتي عبارة اختراع، لذلك نحتاج إلى تبوئة أسماء محلية نربطها بأذهان أبنائنا بالاختراع، يشعر من خلالها أن ابن جلدته استطاع أن يخترع ويبتكر ويقدم للبشرية، إذاً فلا يوجد هناك ما يحول بينه وبين الاختراع، أو بمعنى أصح فالاختراع والابتكار ليس حكراً على جنس أو عرق معين وليس له علاقة بلون البشرة أو بشكل العيون.
نحن بحاجة إلى أسماء مثل (ناصر أو فهد أو نايف) أو حتى أسماء حديثة مثل (عصام أو هاني أو زين) ليربطها أبناؤنا بأذهانهم حالما تتبادر إليهم عبارة اختراع وذلك بدلاً من تيسلا وأديسون. ليس هذا فحسب بل نحتاج إلى إضافة أسماء لاحقة أخرى لهذه الأسماء تشعرك بعمق المكان وكأنه قادم من غضا عنيزة أو يشعرك بنسيم الخليج أو صاعد على قمة جبل أجا بحائل، أو تشم من خلاله رائحة الفل الجيزاني أو كأنك تستمع إلى الأذان المدني أو المكي، خذ مثلاً هذه الأسماء (العقيلي، آل سليمان، الشمري، بهكلي، الأنصاري أو يماني)، فتجمع تلك الأسماء لتشكل بذهنك وطناً مترامي الأطراف متعدد المواهب، وحين تبحث في الصور من خلال محرك بحث قوقل عن ناصر العقيلي وعن فهد السليمان وكذلك نايف الشمري أو عصام بهكلي أو هاني الأنصاري أو زين يماني ستجد وجوهاً بسحنات وطنية أصيلة ستجد نفسك تنتمي إلى هؤلاء، ستجد الشماغ يزيِّن رؤوسهم ولون بشرتهم يشبه لون بشرتك وتستطيع أن تُشبِّه نفسك أو أحد أقاربك بأحد هؤلاء. هذه الأسماء حقيقية وليست تخيلية فقد ولدوا وترعرعوا وتعلموا في هذا الوطن ولا زالوا يخدمونه في مجالاتهم المختلفة، ويتكلمون بلغتهم العربية ولهجتهم المحلية بلا رطانة ولا تصنع، وفوق ذلك ففي جعبتهم الكثير من براءات الاختراع والأبحاث العلمية التي أثرت وتثري الإنسانية بالأفكار والاختراعات. وقد جردت تلك الأسماء من ألقابها ليس فقط لأن أفعالها ومنجزاتها أهم من ألقابها، ولكن لأن هذه الأسماء قريبة من أسماعنا، نغمة نطقها لا تشعرنا بالاغتراب. هؤلاء هم نحن وهم النماذج الحية والبديلة التي نحتاج إلى أن نزرعها في عقول أبنائنا بدلاً من أديسون وتيسلا وحتى بدلاً من الرازي وابن سينا وغيرهم. فالرازي وابن سينا على قدرهما وجلالتهما لديهما بعد تاريخي يفصل بيننا وبينهم فلا نتصور أنفسنا أن نتقولب بقالبهم أو أن نكون هم. وحينما حصرت الأسماء السابقة فذلك فقط لأنها ما تبادر إلى ذهني وذاكرتي المحدودة من أسماء بارزة في الاختراع والابتكار وإلا فالوطن مليء بمثل هؤلاء.
حينما تناقشت مع أحد الأصدقاء عن هذا الموضوع والتبوئة الوطنية للمخترعين ذكر لي أنني انتقلت من نخبة إلى نخبة أخرى، فالأسماء المذكورة قد تلقوا تعليمهم العالي باللغة الإنجليزية وتخصصاتهم تنحصر بين الكيمياء والفيزياء والهندسة. وأردف، نحن بحاجة بالإضافة إلى هؤلاء إلى أديب أو شاعر أو مفكر وطني لديه اختراعات، فرددت عليه: وتريده كذلك من الباحة ومحياه لا تغادره الابتسامة. فقال لا تسخر مني فأنا فقط أردت فقط أن نزيد من مساحة القدوات. فقلت: أنا لا أسخر فأنت في وطن يزخر بالمواهب والإمكانيات، فهذا الأديب الشاعر ابن الباحة الذي لا تفارق البسمة محياه عبد الكريم الزهراني قد سجل براءة اختراعه في مكتب براءة الاختراعات الأمريكي، ليس هذا فحسب فهذا الاختراع يشكل ثورة في عالم الشعر والأدب لا يبتعد كثيراً عن سلفه الخليل ابن أحمد. فهذا الزهراني قد مكَّنني وغيري ممن لا يعرف الفرق بين العروض والمعروض أن نسكب الشعر بيتاً بيتاً بدون كسر أو اختلال. بل وأن نعارض المتنبي والمعري وامرؤ القيس. فمن خلال اختراعه يمكن أن تُدخل أبياتك فيه وتعرف أين يكمن الخلل وتصلحه بل ويعطيك من أشعار العرب ما يماثله وزناً وقافية.
براءة الاختراع هي في الأصل وثيقة لحفظ الحقوق الفكرية لمنتج معين مثلها مثل صك الأرض تبين من خلالها حدود الفكرة ونقاط الإضافة التي لم توجد من قبل. ومع الزمن أصبحت مقياساً لمدى القدرات العلمية والفكرية لشعب ما أو مجموعة أو منظمة أو حتى فرد.
وحين تفتخر جامعة الملك فهد بأنها أفضل رابع جامعة بالعالم تسجل براءات اختراع في مكتب براءة الاختراع الأمريكي، فهذه تبوئة وطنية علمية لإحدى مؤسساتنا المتميزة. لا يوجد هنا مجال للمجاملة فالأرقام هي التي تحكم. وإذا كنا نملك هذه النماذج على مستوى الأفراد ومستوى المؤسسات فهذا يعني أن العجلة تدور واستمرار دورانها والزيادة في معدل سرعتها يحكمه توسيع الدائرة، فالمراحل التعليمية ما قبل الجامعة هي النواة لتطوير القدرات ودفع الإمكانات. فبالإمكان تدريس كيفية كتابة نموذج براءة الاختراع في مقررات العلوم واللغة الإنجليزية، وعرض نماذج منها من اختراعات أبنائنا.
البرمجيات التي يتعلمها الآن طالب وطالبة المرحلتين المتوسطة والثانوية متميزة، واستطاع الطالب أن يبرع فيها وينتج تطبيقات رائعة على الحاسب والجوال. كذلك يمكن تدريسه برامج الرسم لتجهيز الرسومات المناسبة لتقديمها في الحصول على براءات الاختراع.
ومن خلال خبرتي في مجال الرسم الهندسي أرشح برنامج Fusion 360، حيث سهولة تعلمه للمراحل المتوسطة والثانوية وكذلك توفره بشكل مجاني للطلاب، والأمر المهم الإمكانيات المتميزة لتقديم كل ما تريده من رسومات لكتابة براءة الاختراع، ويمكن كذلك تعليمه كيف يستخدم البرنامج السابق وبشكل مباشر في طباعة منتجه عبر الطابعات ثلاثية الأبعاد والتي توافرت الآن وبأسعار زهيدة.
للحصول على براءة الاختراع لابد من وجود نقاط معينة بالفكرة لم يتعرض أحد لها أحد من قبل، ومعنى هذا أن صاحب الفكرة عليه أن يبحث في الاختراعات السابقة المسجلة، وقد سهلت قوقل من ذلك. فوفرت محرك بحث متخصص فقط لبراءات الاختراع وهو patent.google.com، فاللغة ليست حاجزاً حتى لو لم يكن صاحب الفكرة ملماً باللغات الأخرى، فالمتصفح لديه إمكانية ترجمة كل ما كتب في براءات الاختراع المختلفة إلى اللغة العربية. ويمكن من خلالها التعرف على المبادئ الرئيسية للاختراع حتى لو كانت الترجمة الآلية محدودة الدقة، والعكس صحيح. فحين يتم كتابة الفكرة فيمكن كتابتها باللغة العربية. وستكون مخيراً إما نشرها باللغة العربية عبر أحد مكاتب براءات الاختراع العربية، أو ترجمتها عبر المترجم الآلي ثم الاستعانة بأحد المدققين اللغويين لتصحيحها في حال الرغبة في نشرها في المكاتب غير العربية.
حينما تقرأ في كثير من المواقع أو تسمع عن التقديم لمكاتب براءات الاختراع فقد يشعرك بأن هذا الأمر معقد ولا يعمله إلا المتمكنون في هذا الأمر، وهذا الكلام فيه وجهٌ من الصحة، فهناك مكاتب محاماة متخصصة في التقديم لمكاتب براءة الاختراع، وهي تأخذ مبالغ كبيرة. وفي الحقيقة هي تركز على الشركات أكثر من الأفراد بسبب قدرتهم على الدفع ومعرفتهم بقيمة هذا الصك وهو براءة الاختراع المادية فيما بعد. ولكن هذا لا يمنع الفرد أن يتعلم ويقدم بنفسه. فالأمر الآن أصبح أسهل من السابق، وكل خطوة تمر بها ستجد الشروحات المختلفة والمتنوعة لها عبر اليوتيوب أو المواقع المختلفة. كذا ستكون رسوم التسجيل فقط مقبولة، إذا قام صاحب الفكرة بالكتابة والرسم ومتابعة الخطوات المختلفة للتسجيل.
لذلك تأسست جمعية المخترعين السعودية التي تأخذ من جامعة الإمام محمد بن سعود مقراً لها؛ للمساهمة في مساعدة المخترعين المبتدئين في مهامهم، وقد كان لي الشرف أن أكون أحد الأعضاء المؤسسين، بالإضافة إلى ذلك هناك مراكز منتشرة في السعودية أحدها يتبع لجامعة الملك فهد ويسمى فابلاب، وهو اختصار لجملة معمل التصنيع والتجميع، هذه المعامل مفتوحة للجميع وتساعد أصحاب الأفكار وتدربهم على تحويل الأفكار من شخبطات على الورق إلى رسومات هندسية حقيقية، ومن ثم إنتاجها على المكائن المختلفة لديهم، مثل الطابعات ثلاثية الأبعاد أو القطع بالليزر أو غيرها.
** **
ا.د. عبد العزيز سليمان العبودي - جامعة القصيم