لو كان الشيب مجرد تغير طبعي في لون الشعر لما جزع الناس منه، ولما قابله الشعراء بهذا الوابل من القصائد والأبيات التي تذمه وتنفر منه، لكن ما أزعجهم منه أنه علامة على تجاوز بوابة الكهولة، المفضية إلى مخيم الشيخوخة، ثم إلى سجن الهرم. كما أنه - في نظر كثير منهم - يجعلهم على مرمى بصر ملك الموت.
ومن الذين لم يرحبوا بحلول المشيب مُزَرِّد بن ضرار فرآه زائرا ثقيلا، يفرض نفسه، ولا يمكن غلق الأبواب دونه:
فلا مرحبا بالشيب من وفد زائر
متى يأت لا تحجب عليه المداخل
وسقيا لريعان الشباب فإنه
أخو ثقة في الدهر إذ أنا جاهل
إنه الضيف غير المحتشم الذي ألمَّ برأس المتنبي، ففضل السيف على هامته بدلاً من الشيب، ومع أنه أبيض اللون لكنه يراه في عينه أسود من الظلم:
ضَيفٌ ألَمَّ برأسي غَيرَ مُحتَشِمِ
والسَيفُ أحسَنُ فعلاً منهُ باللِمَمِ
ابعد بعدت بياضا لا بياض له
لأنت أسود في عيني من الظلم
ويعلن أبو يعقوب الخريمي للشيب لما حلَّ به أنه سيكسر قواعد الضيافة العربية ويخرج على قوانينها، فهو ضيف غير مرحب به، فلن ينال منه سوى التقطيب. يقول:
وقلت لضيف الشيب لما ألم بي
نصيبك مني جفوة وقطوبُ
حرام علينا أن تنالك عندنا
كرامة بِرٍّ أو يمسك طيب
وإذا كان ثمة من احترم الشيب ورحب به لأنه نذير بقرب الأجل فإن هناك من عدَّ هذه الخصلة الحسنة من سيئاته. ومن هؤلاء الشاعر عمر بن أبي ربيعة الذي يقول:
أودى الشباب وأمسى الموت يخلفه
لا مرحبا بمحل الشيب إذ نزلا
وقد أكثر أبو تمام من ذكر كراهيته للشيب وذمه، لأنه يراه قرين الموت كما في قوله:
كل داء يرجى الدواء له إلا
الفظيعين ميتة ومشيبا
ويصور المعنى تصويراً دقيقاً الشريف الرضي، إذ يجعل المنايا سراة تائهين في ليل بهيم، يُسَرُّون حين يلمحون الضوء، فيسرعون الخطى تجاه الشخص الجاثم حول ناره:
وأرى المنايا إن رأت بكَ شَيبةً
جعلتكَ مرمى نَبلها المُتواتِرِ
تَعشو إِلى ضَوءِ المشيبِ فتهتدي
وتَضلُّ في ليلِ الشبابِ الغابِرِ
وقد أبدى محمد بن حازم الباهلي عجبه من أن أحداً لا يُعزِّي في الشيب حين يحل بالرجل كما يُعزَّى عند فقد قريب أو عزيز. فيقول:
أليس عجيبا بأن الفتى
يصاب ببعض الذي في يديه
فمن بين باك له موجع
وبين مُعَزٍّ مُغِذٍّ إليه
ويسلبه الشيب شرخ الشباب
فليس يعزيه خلق عليه
ويقيم أبو تمام الحجج لإثبات سوئه، ومن هذه الحجج أن الشباب لو لم يكن أفضل من المشيب لما وعد الله سبحانه وتعالى الصالحين في الجنة بأن يجعلهم شبابا فيقول:
لو رأى الله أن في الشيب فضلا
جاورته الأبرار في الخلد شِيبا
ومن هذه الحجج أنه لا خير في الحلم مع الشيب، فقد كان حليما قبل حلول الشيب، ووصف الشيب بأنه قضى على روضة الشباب وجعلها يبابا، وفجعه في صميم فؤاده، ويقول إن الشيب يُسمَّى جلالا مثل تسميتهم اللديغ سليما:
أَصبحتْ روضةُ الشبابِ هشيما
وغدت ريحُهُ البَليلُ سموما
شعلة في المَفارِق استودعَتني
في صميمِ الفؤادِ ثُكلا صميما
دِقَّةٌ في الحياة تُدعى جلالا
مثلما سُمِّيَ اللديغُ سَليما
حَلَّمَتني - زَعَمتُم - وَأَراني
قبل هذا التَحليم كنتُ حليما
وفي المعنى نفسه - وهو أن الحلم ليس مقتصرا على الشيوخ - يقول المتنبي:
ليت الحوادث باعتني التي أخذت
مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
فما الحداثة من حلمٍ بمانعةٍ
قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
ويتساءل الشريف المرتضى عن جدوى الحلم إذا كان مفضيا للموت:
وقالوا أتاه الشيب بالحلم والحجى
فقلت بما يبري ويعرق من لحمي
وما سرني حلم يفيء إلى الردى
كفاني ما قبل المشيب من الحلم
إذا كان ما يعطينيَ الحلم سالبا
حياتي فقل لي كيف ينفعني حزمي
ويرى أبو الحسن التهامي الشيب إساءة لا تغتفر حين يقول:
بكرت طلائع للمشيب بلمتي
إن المشيب إساءة لا تغفر
ويزعم أبو حية النميري أن الشيب قد أفسد جماله:
وصد الغانيات البيض عني
وما إن كان ذلك عن تقالي
رأين الشيب باض على لداتي
وأفسد ما علي من الجمال
** **
- سعد عبدالله الغريبي