إلى القراء الأعزاء: حين أبث إليكم النجوى، وأرسمِ معالم تجربة بحثية، واصطفيكم بالحديث عن صفات الباحث؛ فإني أعلن -حقًا لا تواضعًا- أن غيري أحق بالحديث، فأسماعكم عطشى إلى علوم ومعارف وطرائق قدد في البحث، وإني لأنقل تمري إلى من ابتعته منهم، لكن عزائي أنكم أهل العلم، تصغون بكل أدب، وتشجعون وأنتم تعرفون، وتعزفون على أوتار حب المعرفة، فلكم مني رسائل الشكر، وكلمات الود، وأوراق الورد.
وأما عن صفات الباحث التي هي بيت القصيد في هذا الحديث، فلعلي أنقل التجربة الشخصية، وخلاصة الحياة العلمية، وسلاف المعرفة البحثية، وإني أراها كما تقرؤون:
1- جدِد الإخلاص لله -عز وجل- في كل مرحلة من مراحل بحثك، فما حل الإخلاصِ لله في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، ولتكن نيتك في بحثك أن تكون مهاجرًا فيه إلى الله تعالى، قبل أن تكون الهجرة فيه إلى دِنيا تصيبها من حيثِ الدرجة العلمية، والترقي في الوظيفة، وما الهجرة فيه إلى الله إلا بتوخي المراقبة الذاتية، وتحري الأمانة العلمية، وترك السرقة ولو كانت شبرًا من سطر.
2- لتكن حياتك حياة طيبة، وإذا كان العمر ينقضي، وساعاته تفر، وأوقاته ترحل؛ فليكن العمر معمورًا بكفاح ترويه لأحفادك بعد حين، ولتكن ساعاته محفورة بالعذاب العذب والشقاء الجميل، وما البحث العلمي إلا رحلة في طريق حياة القلب والعقل، فحذارِ أن تكون حياتك كدرًا من الجهل، وطينًا من الراحة والركون إلى السكون.
3- وإني لأحذرك من العجلة في اختيار موضوع البحث، وفي رسم خطته، وتسويد صفحاته، فتصبر حتى ترزق البصيرة، واقرأ، واستشر، ووازن بين الأمور، وتأمل في مآلاتها. ولتكن عندك -بعد ذلك- الرغبة في الموضوع الذي اخترته، وفي هذا يقول د. شوقي ضيف -رحمه الله- في كتابه: (البحث الأدبي، ص17): «وكثيرًا ما يلجأ بعض الباحثين إلى أساتذتهم ليدلوهم على موضوعات يبحثونها، وهي طريقة خطرة؛ إذ قد يدلهم هؤلاء على موضوعات لا تتفق وميولهم الحقيقية؛ فيتعثرون فيها». انتهى كلامه. ومع أن موضع البحث بحاجة إلى صبر للوصول إليه، إلا أن الصبر لا يعني تأخير الإنجاز، فما أخذ الباحثون إلا من طريقين هما: التهاون والتهور، فكن وسطاً.
4- ولا تكن مع مرشدك أو مشرفك إلا كما ينبغي أن يكون طالب العلم: أدبًا عند السؤال، وتأدبًا حين تختلف الآراء، وبرًا به في رحلة البحث، وصلة بعد الوصول إلى المرسى. واصبر على مر جفاه، وعلى قسوة آرائه، وعلى حذف أوراقِ جمعتها في أشهر، وتعلم من خبرته، واستشره فيما استغلق، وحاوره في الذي تراه أصوب، فإن له خبرةً هي من خير الزاد.
5- ستمر بك أيام عجاف، تسود بك صباحات البحث، وتسمر في ليلك مع همومك، وتتمنى أنك لم تقدم قدمك إلى هذا العالم، وستشعر بالإحباط حين ترى أصحابك يسلمون بحوثهم ويناقشون، ويعلنون فرحتهم بدرجاتهم العلمية الجديدة، وإني أحذرك أن يحل الجدب في أرضك روحك، وأن يشيع الظلام في زوايا حماسك، واعلم أن الناس في بحوثهم مواهب وقدرات، فمنهم من يركض فيه بلا تمحيص، ومنهم من يمشي الهوينا ويقطف من ثمرات الكتب، ومنهم من يلجمه الإحباط إلجاماً. واعلم أن كل مر سيمر، وستكون أيامك في البحث تاريخًا تطويه فترويه، فضع بصمة الإبداع فيه، ولا تكن فصول بحثك نتاج شتات قراءات، واضطراب أفكار، إذ لا بد من التأصيل الجيد في موضوع البحث، وفي طرق البحث العلمي، ويقول د. شوقي ضيف في هذا (البحث الأدبي، ص:18): «ومن أجل ذلك كان ينبغي ألا يهجم ناشئ على البحث في الأدب قبل أن يتسلح له بقراءات كثيرة فيه وفي مباحثه؛ حتى يجد نفسه». ويقول أ.د. عبدالله الرشيد –حفظه الله- في كتابه (كتابة البحث العلمي، ص:47): «فاجعل من بدهياتك، أيها الباحث، أنك لن تكون باحثًا حتى تكون قارئاً. إن الباحث قارئ بالضرورة، وكل باحث ممتاز هو قارئ ممتاز». ثم إن عليك أن تحترم -في بحثك- آراء الآخرين، ولا تكن متعجلاً في إصدار الأحكام فيهم، أو في الموضوعات التي تبحثها.
6- تدرب على الأسلوب العلمي، وتجنب دروب لغةِ الحياة اليومية، وأساليب الصحافة، فإن الأسلوب في بحثك هو شعارك ودثارك وعطرك. واعلم أن الأساليب العلمية لايلقاها إلا الذين صبروا: تدريبًا، وقراءة، وحرصًا على التجويد.
7- في كل مرة ستسأل: هل انتهيت من بحثك؟ وسترى هذا مطروحًا في الطريق يسألك فيه الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والعربي والعجمي، فحذارِ أن تحدد لهم موعدًا للخلاص، أو وقتًا للانتهاء، وبين لهم أنك تسير في بحثك كما ينبغي، فإنك إن تأخرت في بحثك عاتبوك وعابوك، فتشعر أنك غير جاد؛ فيقل عطاؤك، وتذوي همتك.
8- لا تسأل أحدًا كم تقضي في بحثك كل يوم! فإن هذا سؤال يذكِر بمن يقول: كيف تذاكر للاختبارات؟ فلكل طريقته ووجهته التي هو موليها، فاستبقوا الخيرات في تنظيم أوقاتكم بما يلائم شخصياتكم، وقد تشعر بالضياع الوقتي في بداية الطريق، لكنك سترى أثر كفاحك وتصبرك في تنظيم وقتك.. فكن أنت ولا تكن مزعًا مؤلفة من غيرك.
9- وأخيرًا: تواضع؛ تكن في زمرة السعداء.. فلا تصعر خدك لمن هم دونك، واعلم أن المكتبات أكبر فضيحة لكشف حجم الجهل في كل واحد منا، فإن كنت تعلم شيئًا فقد غابت عنك أشياء. شاكرًا وقتكم الذي مضى في قراءة هذه الوصايا، راجيًا من العلي القدير أن يجعل أحلامكم في بحوثكم واقعًا تحسونه، وتسعدون به، وتفخرون.
** **
- د. سليمان بن فهد المطلق