تركي بن رشود الشثري
التوازن مطلوب بين الصمت والكلام، فليس كل شيء يعبر عنه بالكلام، ففي الصمت إشارات عميقة للحب والسلام والحزن والتأمل الشفيف، فلا تُهدر كل مشاعرك عبر سجنها في عبارات ضيقة الحدود فإن الصمت لا حد له، يقول دكتور مصطفى محمود ((والحقيقة أن الحروف تحجب ولا تكشف وتضلل ولا تدلل وتشوه ولا توضح، وهي أدوات التباس أكثر منها أدوات تحديد))، ويضيف ((وللصمت المفعم بالشعور حُكم أقوى من حكم الكلمات وله إشعاع وله قدرته الخاصة على الفعل والتأثير)).
كثير من المشكلات الزوجية والنزاعات الأسرية والتعقيدات في العمل سببها الكلام الزائد والذي لا فائدة منه ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))، و((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، و{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، وغيرها من النصوص المتكاثرة والقصائد والحكم والأمثال التي تخبرنا أن الصمت من الذهب ولا مقارنة بينه وبين فضة الكلام، وعليه فأنت مطالب بأخذ حظك الأوفى من الصمت بل وإطالة الصمت الذي لا يصل إلى درجة الانقباض؛ عالمان من العلماء الكبار تميزا بتقنية استخدام الصمت والذي يجيء في وقته، صحبتهما وكنت أفهم من صمتهما أضعاف ما أفهم من قولهما، والبعض يظن أن هذا يأتي بقرار بمعنى أن يمسي مهذاراً ويصبح من أصحاب السمت الحسن ولم يعلم أنه هبة، ومن الممكن أن تُنمَّى وتطوَّر بالتدريب الدائب المستمر.
يقول سقراط: ((اعرف نفسك))، هناك حدود يجب أن تكون واضحة بين الفرد والمجتمع، فأنت عالم لوحدك ولك شروطك الخاصة ونظراتك المتفردة، لست عوداً من حزمة ولا قشة من حقل يابس ولا مسماراُ في آلة فقط، وعليه فالتوازن بين الفردي والجماعي مطلب مُلح، سواء على مستوى العقل، فلا تنداع مع العقل الجمعي فتكون إمعة، أو على مستوى العاطفة، فلا تتناغم مع الجوقة الطائفية أو المحلية أو المجتمعية، عموماً يقول تيوفيل غوتيه: ((على الشاعر أن يرى الأشياء الإنسانية وأن يفكر فيها من خلال نظرته الخاصة دون أية مصلحة اجتماعية أو مذهبية))، وعلى مستويات أكثر من هذا أيضاً على مستوى العادات بل وبعض القيم، ولذلك فرسم حد فاصل بين الفرادة والانخراط المجتمعي بات أمراً مُلحاً، بحيث يحفظ لك هذا التمييز بين المجالين المكان المناسب فلا تكن نشازاً، وأيضاً يعصمك من التحول إلى رقم في معادلة، يضيف غوتيه ((تكمن السعادة القصوى في شخصية الإنسان))، ويقول فردريك لونوار ((التربية والثقافة تمنعاننا أحياناً من إظهار حساسيتنا وتنحوان بنا بعيداً عن ميولنا أو عن آمالنا المشروعة، لهذا السبب علينا أن نتعلم أن نكون أنفسنا بتجاوز البرامج الثقافية والتربوية التي يمكن أن تحيدا بنا عما نكونه، إن هذا التجاوز هو ما يدعوه عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ بـ»سيرورة التفرد» التي تتحقق غالباً في حوالي الأربعينيات من العمر، عندما نقوم بأول تقييم لوجودنا، نستطيع أن نكتشف أننا لسنا نحن بما يكفي، وأننا نسعى لإسعاد هؤلاء وأولئك من دون أن نراعي أنفسنا))، بطبيعة الحال مثل هذا الطرح قد يُخِّيل للقارئ تسويغ التمرد أو الانفلات أو التمكين لغريبي الأطوار داخل المجتمع بأن يمارسوا فرادتهم المقيتة، وليس هذا هو المقصود إنما المقصود هو تحقيق القدر الذي لا بأس به من احتضان الشباب العولمي، والذي يتواصل مع العالم بسهولة، وما «كلوب هاوس» إلا تأكيد لما نقول، فهذا الشاب على اطلاع على تنوع الثقافات والاختيارات والميول، وهو في الوقت ذاته يتطلع لشيء من الاستقلالية الفكرية وممارسة الخصوصية في جو آمن من تهم الغرابة أو الأنانية أو الخروج عن المألوف، فنحن بذلك نضمن بقاءه الوجودي داخل المجتمع، لا أن يشذ عنه بالفعل ويخلق له عوالمه الخاصة، والتي يستطيع من خلالها أن يعبِّر عن وجوده بعيداً عن المجتمع وقلاعه العتيدة، وشيئاً فشيئاً ينسلخ عن مجتمعه، ونحقق بذلك أيضاً التنوع الرداني الجميل، والذي يعبِّر عن قوة المجتمع وتلاحمه ومرونته الفائقة في تلقف الأفكار والأذواق لعموم أفراده، وأيما مجتمع يقاوم بضراوة اختيارات أفراده، خصوصاً الشباب، فلينذر نفسه بالاهتراء الداخلي حتى وإن كان ظاهره التماسك الشكلي.
إذن التوازن قانون فإن عانيت شيئاً من الفوضى بين الجسم والروح وبين العقل والعاطفة وبين الصمت والكلام وبين الفرداني والاجتماعي، فالمطلوب إضفاء مسحة من التوازن لتنقلك من حال التشويش لحال الصفاء نحو نفس أكثر هدوءًا.