د.محمد بن عبدالرحمن البشر
حكم الأمويون الأندلس، وحكم المرابطون الأندلس والمغرب، بينما حكم الموحدون فترة من الزمن الأندلس والمغرب الأقصى، والمغرب الأوسط، والمغرب الأدنى، وامتد سلطانهم من طرابلس الغرب بليبيا حتى المحيط الأطلسي، كما تخلل ذلك حكام للطوائف هنا وهناك، بينما حكم أفراد تابعون للحكم الأموي في دمشق الأندلس عند بداية الفتح.
خلال تلك المسيرة الطويلة حتى وقتنا الحاضر كان - وما زال - المذهب المالكي هو السائد، وقد تخلل تلك القاعدة فترات وجيزة من المذهب العبيدي في المغرب الأوسط والأدنى، وتم القضاء عليه من قِبل البرغواطيون، الذين يحملون فكرًا غريبًا مثل الصيام في رجب بدلاً من رمضان، والزواج من أي عدد من النساء دون اقتصار ذلك على أربع، وقد استطاع الموحدون القضاء عليهم، وعلى مذهبهم الغريب، ولم يقم لهم قائمة حتى يومنا هذا.
والصوفية وغيرها إنما كانت ممارسات، ولم تكن مذهبًا، يرى فيها البعض صفاء ونقاء وارتباطًا مع الله -عز وجل-، والبُعد عن التركيز على الدنيا وأطماعها، وهمومها، ومنافساتها التي لا طائل منها، لكن البعض ممن مارسوها خرج عن المألوف والمقصود بفعل بعض الطقوس غير المقبولة. وفي جميع الأحوال، فإن المذهب المالكي كان -وما زال- سائدًا.
كانت الأندلس ميدان علوم وانفتاح على الثقافات الأخرى، وساحة واسعة خارج نطاق التزمُّت؛ فقد عاش فيها المسلمون واليهود والنصارى بحرية كاملة. وفي ظني، لو أن أحدًا أخذ نسبة ممن تولوا المناصب العليا من المعتقدات الأخرى إلى عددهم الموجود في البلاد لوجد أن نسبة من تولوا المناصب من المسلمين أقل تلك الفئات، أما ما يخص العلم فلم يكن هناك فرق بين من كان يسكن في الأندلس أو من قدم إليها لطلب العلم من خارجها دون النظر إلى معتقده، وفكره، ولكن ذلك لم يكن دون منغصات قليلة جدًّا في فترات وجيزة بسبب مساعدة عدد قليل من طائفة معينة للعدو.
عبدالرحمن الداخل ومن قبله من الحكام كانوا متسامحين مع الطوائف، والأفكار، لكن مع ثبات المذهب المالكي، وفي عهد هشام بن عبدالرحمن الداخل، وهو عالم يحب العلماء، قرّب رجال الدين، وأصلح أحوالهم، وتجاوز عن خطاياهم، ولم يغيّر شيئًا على الطوائف الأخرى، لكن ابنه الحكم بن هشام الملقب بالربضي لم يكن كذلك، فكان يحب جلسات الأنس والطرب، ورحب بزرياب المغني البغدادي، وأكرمه وأدناه، حتى أن ابن عبد ربه، صاحب العقد الفريد، قال في ذلك:
ما يأخذ العالم في دهره
يأخذه زرياب من ساعة
لهذا فقد تذمر العلماء كثيرًا، وكان معظمهم يسكن في أحد أحياء قرطبة الراقية، يسمى الربض، فأحس الحكم بشيء ما يحاك ضده؛ فأرسل جنده وحاصر الحي، وقتل منهم نحو اثنين وسبعين؛ ولهذا لقب بالحكم الربضي. لكن سواء في عهد هشام أو الحكم كان التسامح هو السائد.
كان للفلاسفة وأصحاب علم الكلام مساحة واسعة لطرح أفكارهم دون الإخلال بوحدة المجتمع. أما في زمن المرابطين فالأمر غير ذلك؛ فقد كانوا حربًا على الفلاسفة، وأحرقوا كتبهم، وأي كتب تخالف المذهب المالكي، فقد تم حرق كتب ابن حزم الظاهري، حاد الطبع، والمجادل القوي، وكان يرى أن القرآن والسنة هما أساس التشريع فقط، ويأخذ بظاهر النص، ويرى القرآن والسنة لم يتركان شارة ولا واردة؛ لهذا فإن القياس الذي يعمل به المذهب المالكي غير مناسب.
ويقول المراكشي صاحب كتاب المعجب: إن يوسف بن تاشفين المرابطي قد آثر أهل الفقه والدين، وقرّبهم إليه، وكان لا يقطع أمرًا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء؛ فبلغ الفقه في عهده مبلغًا عظيمًا، لم يبلغه في الصدر الأول من فتح الأندلس، وكان لا يقرب إلا علماء المذهب المالكي وفروعه، وقد كفّر هو والعلماء والعامة من يخوض في علم الكلام، وقرّر الفقهاء عند يوسف بن تاشفين تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له، وهجر من ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعه في الدين. وعندما دخلت كتب أبي حامد الغزالي إلى الأندلس أمر بإحراقها، ومعاقبة من وُجد عنده شيء منها، وأخذ ماله.
وعندما انتصر الموحدون على المرابطين، وقوي سلطانهم، كان لهم رأي آخر في الفلاسفة وعلومها، وإن لم يُظهروا ذلك علنًا؛ لذا نجد أن ابن الطفيل وابن رشد، وحتى موسى بن ميمون اليهودي، تتمتع كتبهم بدرجة معقولة من الحرية. ورغم أن حركة الموحدين حركة دينية، مثلها مثل المرابطين، إلا أن الموحدين لا يرون الاقتصار على المذهب المالكي صحيحًا، ولاسيما أن عبدالمؤمن، وقبله ابن تومرت، قد كانا عالمَي دين بارزَين وصالحَين في نفسَيهما، وكان ابن تومرت واعظًا في مكة والإسكندرية بعدما ذهب إليها وعمره ست عشرة سنة، ويقال إنه قابل أبا حامد الغزالي الذي أحرق المرابطون كتبه. وتولى عبدالمؤمن الحكم بعد ابن تومرت، ووطد الحكم بحنكته ودرايته، ثم ولي بعده ابنه يوسف.
وتولى يعقوب بن يوسف، الملقب بالمنصور، الحكم. وهنا يتضح فكر الموحدين؛ إذ يذكر المراكشي أن المنصور قد أمر بحرق كتب مذهب الإمام مالك بعد أن يجرد منها كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، مثل مدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، والتهذيب للبرادعي، وغيرها. ويذكر المراكشي أنه شاهد بعينه في مدينة فاس وهو صغير السن أنه كان يؤتى بالأحمال فتوضع وتطلق فيها النار.
وأخذ يحذر الناس من علوم الفلاسفة، لكنه في الواقع يسمح بها، ويقرب أصحابها، مثل ابن الطفيل، وابن رشد، رغم أنه غضب عليه وأبعده لأمر سياسي، لكن ابن الطفيل تشفع له فأصبح طبيبًا وجليسًا للمنصور مع صديقه ابن الطفيل، وكان الفيلسوف والطبيب القرطبي المشهور، اليهودي المعتقد موسى بن ميمون، أحد تلاميذ ابن الأفلح، وابن رشد، وأبي بكر ابن الصائغ؛ لهذا يعتبر فيلسوفًا إسلاميًّا، وإن كان يدين بغير ذلك؛ وهذا يدل على مدى التسامح الذي كان سائدًا في ذلك الوقت. وقد فتح الحاكم الموحدي يعقوب المنصور الباب لدراسة الكتب الأخرى، مثل الصحيحَين والترمذي وسنن أبي داوود والنسائي، وسنن البزار، ومسند ابن شيبة، وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي. وقد سمح بإعادة جمع ما بقي من كتب ابن حزم وكتابتها ونشرها. يقول المراكشي إن غايته عدم الاعتماد على مذهب واحد، وربما أنه كان ميالاً لابن حزم الظاهري المذهب؛ لهذا فقد وجد الفلاسفة مساحة واسعة لطرح أفكارهم، وهكذا فقد أسهم الفلاسفة في إثراء المكتبة الإسلامية، مع ما اعترى كتبهم من أخطاء لا تتفق مع المنهج الصحيح.