د. عبدالحق عزوزي
يجري وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، في أول رحلة خارجية له منذ توليه منصبه في 22 كانون الثاني/ يناير، جولة في عدد من الدول الآسيوية في مسعى للتأسيس لتحالفات متنوعة تهدف لمواجهة صعود الصين.
وسيلتحق أوستن بوزير الخارجية أونتوني بلينكن في طوكيو وسيول حيث سيجريان محادثات مع نظيريهما الياباني والكوري الجنوبي أملاً في تشكيل «ردع موثوق به» أمام الصين.
وقال للصحافيين المرافقين له في جولته «إنها مسألة تحالفات وشراكات». وأضاف: «الأمر يتعلق أيضا بتعزيز قدرتنا»، مذكرًا بأنه بينما كانت الولايات المتحدة تقوم جاهدة بمكافحة الجهاديين في الشرق الأوسط، كانت الصين تُحدث جيشها في سرعة عالية. كما أكد وزير الدفاع الأمريكي أن «ميزتنا التنافسية قد تآكلت. لا تزال لدينا ميزة ولكننا سنقويها». وتابع «هدفنا هو التأكد من أن لدينا القدرات والخطط والمفاهيم العملياتية لنكون قادرين على توفير ردع موثوق أمام الصين أو أي جهة تريد مهاجمة الولايات المتحدة الأمريكية». وأردف الوزير قائلاً: «ما أريده أنا ووزير الخارجية هو البدء في تعزيز هذه التحالفات. الاستماع وفهم وجهة نظرهم (...) بهدف التعاون معهم لكي نتأكد من أننا نعزز الاستقرار الإقليمي».
ويأتي هذا التوجه في بيئة دولية جديدة أصبحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيدًا وأكثر غموضا من أي وقت مضى... فالقوة بالمفهوم القديم لم يعد لها أي معنى، إذ تكفي حروب على شكل هجمات إلكترونية أو نشر أسلحة فيروسية لا ترى ويجهل مصدرها للقضاء على الأخضر واليابس.
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تحس بأنها تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي بل وحتى الثقافي كما كانت عندها في السابق، كما أنه لن يعود للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصاديات الدول الآسيوية واقتصاديات أخرى واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري العالمي، وتنامي الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامي دور الأفراد في العلاقات الدولية المقبلة.
وتظهر الصين اليوم وبعدها روسيا في ظل هاته البيئة الدولية المعقدة على شكل قوتين ستثقان في نفسيهما ولربما استعملتا أسلحة ذكية لم تعهدها العلاقات الدولية من قبل... فروسيا مثلا بدأت تؤثر بدرجة كبيرة في مسار العمليات السياسية في أقوى الدول الديمقراطية وتسعى إلى أخذ البيانات والمعطيات التي تريد؛ فالرئيس الروسي يعي جيدا مفهوم القوة، وبالضبط المفهوم الذي أعطاه المنظر الأمريكي الكبير جوزيف ناي، أي القدرة على تحقيق النتائج التي يريدها المرء... وتتباين الموارد التي تنتج هذه القوة في مختلف السياقات؛ فإسبانيا استغلت سيطرتها على المستعمرات وسبائك الذهب في القرن السادس عشر، وهولندا تربحت من التجارة والتمويل في القرن السابع عشر، وفرنسا استفادت من كثرة تعداد سكانها وجيوشها في القرن الثامن عشر، والمملكة المتحدة استمدت قوتها من سبقها في الثورة الصناعية ومن بحريتها في القرن التاسع عشر، أما هذا القرن فيتسم بثورة فتية في تكنولوجيا المعلومات والعولمة...
ويقيني أن جائحة فيروس كورونا قد ينتج عنها تراجع نسبي للولايات المتحدة خلال الأعوام المقبلة خاصة. وكل هذا وذاك سيؤدي إلى استمرار تآكل النظام العالمي الليبرالي وعودة الفاشية في بعض مناطق العالم. ولكن هذا لن يمنع من ولادة جديدة لليبرالية. فالأزمات الكبيرة قد تؤدي في بعض الأحيان إلى نتائج غير متوقعة في العادة. فالكساد العظيم أدى إلى انبعاث النعرات الانعزالية والقومية والفاشية وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. غير أن ذلك الكساد نتج عنه لا محالة إطلاق مجموعة من البرامج الاقتصادية في أميركا عُرفت باسم «الصفقة الجديدة»، وبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى، وتصفية الاستعمار في نهاية المطاف...
إن رؤية صناع السياسة الدولية اليوم، يجب أن تتضمن نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويماً مسبقاً لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار المصالح في المستقبل. ومع أننا مع المدرسة التي تقول بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به على نحو دقيق، فإنني أعتقد جازما بأنه يمكن التأثير فيه، وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج تحقق مصالحها الاستراتيجية؛ هاته هي القاعدة التي تؤمن بها الدول الغربية ولروسيا والصين فيها قدم سبق في الهجمات الإلكترونية وفي عالم سماته قائمة على رباعية التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض.