أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: تجارب في رد العمل، وأدب المجالسة والمآنسة عند الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله تعالى فيا أيها الأحباب: حديث اليوم عن تتلمذي للإمام ابن حزم الظاهري على الرغم من ألف عام ونيف بيني وبينه، وكان رحمه الله تعالى حفياً بأدب المجالسة والمآنسة:
قال أبو عبدالرحمن: هي تجارب عشتها على مدى عمري، وهي أيضاً مقدمة لنعيم الانكسار بين يدي الله عز وجل؛ فمن تلك التجارب: أنه بدخول شهر رمضان المبارك منذ عهد ليس بالبعيد: كنت أجد في قيام التهجد راحة، ومع الأسف أن تهجدي في شبابي قليل جداً لا يكون إلا بسبب ضيق صدري، وبفضل الله كان القنوت؛ وهو التهجد نفسه راحة قلبي كل يوم، وكنت يومها أصليها في بيتي منفرداً، أو مع أهلي؛ وفي ذلك لذة وخشوع في أكثر الأوقات، وهكذا أجد عند تلاوة القرآن نهاراً.. مع أنني كنت مقصراً في غير شهر رمضان، وربما نمت عن فريضة (في غير حالات المرض)، وكنت قادراً على وضع الساعة المنبهة؛ خوفاً مني من قلة النشاط؛ لأنني إذا قمت قبل أخذ كفايتي، لا أستطيع معاودة النوم، ولا أستطيع مواصلة أعمالي؛ ثم جاء شهر رمضان المبارك وكان نشاطي بعد عامين، وكنت قد أخذت نفسي على الجد ولا سيما الصلاة في وقتها في المسجد في الأوقات التي لا يقعدني عنها عدم القدرة مما ينتابني أحياناً من عوارض صحية، وكنت كثير المحاسبة للنفس، ومع هذا لم أجد لصلاتي التراويح والقيام (وكنت أصليهما في المسجد جماعةً) أدنى لذة أو خشوع؛ بل كنت كثير الهواجس في الصلاة.. وفي النهار لا أكاد أسترسل في التلاوة؛ لأنه يخرجني من المسجد الملل، ويحدث لي قبل الإفطار ضيق صدر وانفعال على الأهل والولد، وهكذا حصل لي في صيام يوم عرفة، ولما دخلت العشر الأخيرة اجتهدت في أداء مسببات الخشوع متحرياً ليلة القدر، ومع هذا لا أحس لصلاتي طعماً، ولا أعي من التلاوة شيئاً، وتكثر وساوسي، وأحاول أن أتباكى في نفسي إلا أن عيني أشد جموداً من الثلج.. وفي ليلة سبع وعشرين أخذت أهبتي بالاستحمام والملابس الجديدة، ولم يتحسن شيء من حالي إلا أنني في أواخر التراويح في أثناء تلاوة الإمام كنت كمن فقد وعيه، وحاورت نفسي بكلام اجتهدت أن لا يكون مسموعاً منصرفاً عن تأمل التلاوة، قائلاً: (هذا يا ربي طرد وحرمان.. اللهم لا تجعلني شقياً ولا محروماً)، وأمثال هذا الكلام مما لا أعيه الآن، إلا أن لساني يجاوب نيتي بما معناه: (عسى أن لا يكون قد سبق في علمك يا ربي أني شقي؛ إذ لم يقرِّبني عملي من رضاك ورحمتك؛ مما يشعر به مألوف العبادة المقبولة من اللّذة والخشية)، ثم غلبني بكاء غير مسموع أخفي آثاره بمسح دموعي، وأكثرت من الاستعاذة بنصوص الدعاء بالعصمة الإضلال والاستعاذة من الرب به كحديث: (أعوذ بعظمتك أن تضلني لا إله إلا أنت،أنت الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون) وعند (أن تضلني) أضمر، وقد يتحرك لساني بما أضمرت (أن الله لا يضل إلا من أصر على المعاصي وهو يعلم)، ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة في هذا الحديث؛ لأن لَـمَّاتهم عليهم سلام الله وبركاته هداية ودعاء؛ وإنما الإضلال من الجن والإنس، وانتهت التلاوة على هذه الحال، وكان كل ما عايشته في قيامي من الدعاء ملازماً لي في الركوع والسجود أدفع لساني عن النطق به؛ لأشتغل بأدعية الركوع والسجود.. ثم قضيت بقية الشهر والعيد والست من شوال على حال ما قبل ليلة سبع وعشرين من جمود القلب والعين.. وطال عجبي وتأملي من رقة قلبي والتذاذي بالعبادة في العام السابق وأنا في حال تقصير، وبعكس ذلك جمود القلب والعين وأنا في حال محاسبة للنفس، وتحصل لي في أويقات عند التلاوة وأنا في غرفتي وحدي خشية وقشعريرة، وكنت أتعهد تلاوة سورة الزمر ولا سيما منذ قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (سورة الزمر/ 53) وأول سورة غافر، والآيات عن الهالكين كسورة هود، وآيات براهين الله كسورة الروم، والواقعة، والأنعام، وكل كلام الله شفاء، ثم أرفع رأسي إلى السماء تلقائياً من غير وعي أستعيذ بربي أن أموت كافراً أو مبتدعاً أو فاسقاً، وأستجير به من النار، وأسأله الجنة، وأن يظلني تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وأستعيذ به من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات.. وأكثر ما يكون ذلك في السفر.. وظللت مدةً في حيرة من هذا الأمر: كيف تكون الخشية مع التقصير، وتكون قسوة القلب مع محاسبة النفس؟؟!!.. وتكرر مراراً ما شعرت به من أن عملي مردود علي.
قال أبو عبدالرحمن: الإنسان يخطئ كثيراً، ولكنه ينسى ولا يرفع ببعض ما وقع فيه رأساً، وأخذت مني الظنون كل مأخذ؛ فتذكرت فيما تذكرت أنني كثير المزاح والتنكيت في المجالس الخاصة إذا وجدت معيناً على اللغو، وأنسى أكثر المرات كفارة المجلس؛ فقلت (هذا لا يرد به العمل، ويكفره ما بين الجمعة والجمعة، وقبول الله ليلة القدر، وما بين يوم عرفة ويوم عرفة الآخر، وكثرة التسبيح والاستغفار، وفعل الخير وإن قل كإماطة الأذى عن الطريق والبشاشة للناس وزيارة المريض ... إلخ.. ويكفره النية الحسنة كالرحمة للضعيف والولد والصغير، والمحبة لمن تيقنت صلاحه، والكره لأهل السوء، والبغضاء الشديد لأعداء الله).
قال أبو عبدالرحمن: وأختم هذه المقالة بسبح مع مداواة الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى لما أنا عليه من هموم.. قال رضي الله عنه: «من جالس الناس لم يعدم هماً يؤلم نفسه (وإثماً يندم عليه في معاده، وغيظاً ينضج كبده، وذلاً ينكس همته)؛ فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم؟!.. والعز، والراحة، والسرور، والسلامة في الانفراد عنهم، ولكن اجعلهم كالنار: تدفأ بها ولا تخالطها.. لو لم يكن في مجالسة الناس إلا عيبان لكفيا: أحدهما الاسترسال عند الأنس بالأسرار المهلكة القاتلة التي لولا المجالسة لم يبح بها البائح.. والثاني مواقعة الغيبة المهلكة في الآخرة؛ فلا سبيل إلى السلامة من هاتين البليتين إلا بالانفراد عن المجالسة جملةً».. انظر كتاب (الأخلاق والسير/ مداواة النفوس) ص 97 بتحقيق إيفا رمضان والشيخ عبدالحق التركماني/ دار ابن حزم ببيروت/ طبعتهم الأولى عام 1421هجرياً.
قال أبو عبدالرحمن: أبو محمد لا ينسك نسكاً أعجمياً، ولم ينقطع عن المخالطة؛ وإنما نبذ مجالسة ملوك الطوائف الأراذل، ووجوه العامة من ذوي المال والسلطة بعد سقوط الدولة العربية الأموية الكريمة الواحدة عام 422 هجرياً، واحتضن الطلبة، وراسلهم وراسل ذوي العلم، وصدع بما يراه حقاً، ولم ير ذوي الحظوظ الدنيوية المغبونة بمؤخرة عينه.. والمسلم منذ ابن حزم إلى الآن لا يعدم جماعة حق ينضوي إليها بالمخالطة، وإنما العزلة عندما يكثر الشر ولا يجد المسلم جماعة خير.. ولكن شرط المداخلة والمؤانسة أن تختار جلساءك، وتروِّض نفسك، وتستحضر كفارة المجلس إن حصل فضول من القول، ولا تترك مؤانسة جلسائك بالدعابة والمزيحة على قدر ما تنشط وينشطون للاستئناس بالعلم النافع.. وترك هذه المؤانسة داء دوي عند الإمام أبي محمد نفسه.. قال رحمه الله تعالى: «والعجب أصل يتفرع منه التيه، والزهو، والكبر، والنخوة، والتعاطي.. وهذه أسماء واقعة على معان متقاربة؛ ولذلك صعب الفرق بينها على أكثر الناس؛ فقد يكون العجب بفضيلة في المعجب ظاهرة؛ فمن معجب بعلمه فيكفهر وينغلق على الناس.. ومن معجب بعمله، فيترفع ويتعاطى.. ومن معجب برأيه فيزهو على غيره.. ومن معجب بنسبه؛ فيتيه.. ومن معجب بجاهه، وعلو حاله؛ فيتكبر، ويتنحى؛ فأقل مراتب العجب أن تراه يتوقر عن الضحك في مواضع الضحك، وعن خفة الحركات، وعن الكلام إلا فيما لا بد له من أمور دنياه.. وعيب هذا أقل من عيب غيره (قال أبو عبدالرحمن: بل هو ترهبن)، ولو فعل هذه الأفاعيل على سبيل الاقتصار على الواجبات، وترك الفضول لكان ذلك فضلاً وموجباً لحمدهم؛ ولكنهم إنما يفعلون ذلك احتقاراً للناس، وإعجاباً بأنفسهم؛ فحصل له بذلك استحقاق الذم؛ وإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى».. المصدر السابق ص 167 – 168.. كما أن أبا محمد نظم أدب المجالسة والمؤانسة فقال: «إياك وموافقة الجليس، ومساعدة أهل زمانك فيما يضرك في أخراك أو في دنياك وإن قل؛ فإنك لا تستفيد بذلك إلا الندامة (من) حيث لا ينفعك الندم، ولن يحمدك من ساعدته؛ بل يشمت بك، وأقل ما في ذلك؛ وهو المضمون أنه لا يبالي بسوء عاقبتك، وفساد مغبتك.. وإياك ومخالفة الجليس، ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا في أخراك وإن قل؛ فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة، وربما أدى ذلك إلى المطالبة، والضرر العظيم، دون منفعة أصلاً.. إن لم يكن بد من إغضاب الناس أو إغضاالله عزَّ وجلَّ، ولم تكن مندوحة عن منافرة الحق، أو منافرة الخلق: فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك، ولا تنافر الحق».. المصدر السابق ص149.
قال أبو عبدالرحمن: وبعد المفاجأة بهذه الجائحة والوباء العام؛ وهو انتشار فيروس (كورونا) لزمت الصلاة في بيتي، وكنت أختم القرآن في اثني عشر يوماً على الرغم من أنني أستطيع ختمه في خمسة أيام، ولكنني أكرر بعض الآيات؛ وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -