راشد صالح الحمادي
عندما يتحدث التاريخ فلا أصدق منه.. وعندما يتحدث التلميذ المخلص لأساليب الملك عبدالعزيز التربوية والإنسانية الملك سلمان -حفظه الله- عن والده الملك عبدالعزيز الذي تربى على يديه ويتكلم عن ملامح إنسانية من سيرته، فلا غرابة في ذلك فهو الشاهد الذي اكتملت عنده شروط الحياد ولا تتوفر لديه أسباب الانحياز.. فحينئذ لن يكون إلا قاضيًا عدلاً وحكمًا منصفًا وشاهدًا نزيهًا إذ يقول -رعاه الله- في مناسبة احتضنتها جامعة أم القرى في مكة المكرمة «ملامح الملك عبد العزيز اشتملت على كثير من الخصائص والخصال والقيم في حياته، فتاريخه لا يقتصر على جوانب الكفاح وإنجازات التوحيد والبناء فقط، التي هي مهمة ومعلومة للجميع، إنما يتضمن جوانب كثيرة تبرز فيها شخصيته الإنسانية، التي تنهل من سيرة نبينا المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم».
نشأة الملك عبدالعزيز وعلاقته بوالده
ويسرد الملك سلمان بن عبدالعزيز وهو الرجل المخلص لسيرة وتاريخ والده جملة من المواقف ذات الجوانب شديدة العمق في شخصية الملك عبد العزيز وفق تقسيم شمل علاقة الملك عبدالعزيز بوالده وخصومه وتعامله مع المرأة وأسرته ويبين الملك سلمان بن عبد العزيز حول نشأة والده «ولد الملك عبدالعزيز وتربى في الرياض على يدي والده الإمام عبد الرحمن بن فيصل ووالدته سارة بنت أحمد السديري -رحمهما الله- وحظي برعاية كبيرة من حيث التعليم والتنشئة الإسلامية، وغرس الشيم والقيم والمكارم التي هي أساس البيت السعودي، وتمكن من إقامة شعائر الإسلام والحكم بما أنزل الله تعالى وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر»، مضيفاً «وأمّن السبل وآخى بين المتناحرين ودمج الأمة بعد أن كانت أجزاء متفرقة ولم يكن هدفه توسيع المُلك لأجل الحكم فقط، إنما لخدمة دينه وشعبه وخدمة المسلمين في كل مكان». وعن علاقته بوالده يؤكد الملك سلمان أن الملك عبد العزيز عرف عنه تأدبه مع والده، وتقديره له « فعندما تمكن من دخول الرياض استقبله قادماً من الكويت، وأعلن بكل أدب البيعة له في المسجد الجامع الكبير في الرياض، حاكما على البلاد إلا أن والده نهض معلناً البيعة لابنه لثقته به، فقبل عبد العزيز مشترطاً جعل حق الرأي في معالي الأمور المهمة لوالده الإمام». ويظهر الملك سلمان جانباً من توقير الإمام عبد الرحمن الفيصل من ابنه عبد العزيز «من شدة احترامه له لم يكن يمشي في غرفة علوية بينما والده في الغرفة التي أسفل منها، وأكد هذا محمد أسد -رحمه الله- في كتابه «الطريق إلى مكة»، إذ ذكر أن الملك عبد العزيز لم يكن يسمح لنفسه ولا لغيره قط أن يضع قدمه في غرفة من القصر إذا كان أبوه في غرفة تحتها، ونقل عنه قوله «كيف أسمح لنفسي أو لغيري أن يسير فوق رأس أبي». ويكشف «كان عبد العزيز لم يقبل أن يطلق عليه لقب الإمام في حياة والده، تأدبا وتوقيرا له، وكان يلقب بالسلطان ثم الملك إلى أن توفي الإمام عبد الرحمن سنة 1346هـ وأصبح عبد العزيز يلقب بالإمام بعد ذلك إلى جانب كونه ملكا.
اهتمامه بالمرأة
وعن اهتمامه بالمرأة وأسرته يؤكد الملك سلمان أن للمرأة في حياة الملك عبد العزيز اهتماما خاصا «إذ كان يستشير أخته الكبرى نورة -رحمها الله- في شؤون أسرته، وشؤون النساء، لقوة شخصيتها وتدينها ومحبتها للخير ويقبل شفاعاتها للناس دون تردد، ففي رسالة منها سنة 1339 نشرها الشيخ عبد العزيز التويجري - رحمه الله - في كتابه «لسراة الليل هتف الصباح» نجده يوصيها بالاهتمام بوالدة أحد شيوخ القبائل الذي ناوأه واستقبالها والحرص عليها تقديرا لابنها ولأسرته، على الرغم من مواقفه المعادية». ويسرد «تقول نورة في تلك الرسالة «والذي جنابكم يوصي عليها - إن شاء الله - ما أمرتم على الرأس ونوخت علينا وهي الآن عندنا». وأوضح الملك سلمان أن الملك عبد العزيز -رحمه الله- كان يخصص للنساء من أسرته وغير أسرته وقتا في المساء للاستماع إليهن، وقضاء حوائجهن وليطلع على أحوالهن على الرغم من مشاغله المعروفة، وكان يزور الكبيرات من أسرته، صلة للرحم، وكان ضمن برنامجه اليومي إذا انتهى عند الظهر من مقابلة الناس وإنجاز العمل في قصر الحكم زيارة أخته نورة في بيتها تقديرا لها.
تربية الملك عبد العزيز لأبنائه
وحول طريقة تربية الملك عبد العزيز لأبنائه يقول الملك سلمان «لم تكن تربية عبد العزيز لأبنائه تربية ترف، وكان - رحمه الله - يخصص اجتماعا سنويا لأسرته ـ رجالا ونساء ـ ليقدم لهم النصح ويذكرهم بأساس هذه البلاد القائم على الكتاب والسنة والتزام ذلك والمحافظة عليه، كما كان يوجههم بحسن معاملة الناس والاهتمام بالفقراء والمحتاجين وحفظ حقوق الناس وإبراء الذمة». ويورد الملك سلمان موقفاً خاصاً به «أذكر عندما كنت صغيرا أنه كان يتابعني دائما في جميع الأمور، ولا سيما الصلاة والدراسة، إذ كنا نصلي جميع الفروض معه، وقد خصص - رحمه الله - غرفة خاصة في قصر المربع ليحجز فيها كل من يتخلف عن الصلاة معه، بما في ذلك صلاة الفجر، وكنا نهاب سعود بن مسلم وعبد الله بن مبارك وعبد الرحمن بن مسلم - رحمهم الله - المكلفين بإيقاظنا ومتابعتنا يومياً في أداء الصلاة من هيبة الوالد، لعلمنا أنهم يتلقون أوامر صارمة منه لمتابعتنا، وكانت عمتي نورة - رحمها الله - هي مَن تشفع لنا عنده في مثل هذه الأمور».
تعامله مع خصومه
يملك الملك عبد العزيز شخصية قوية شديدة الثقة والوضوح، وهو ما انعكس على تعامله مع خصومه السياسيين، وهنا يؤكد الملك سلمان «تعامل الملك عبد العزيز مع من عارضه أو حاربه من أجل إقامة هذه الدولة تعاملا إنسانيا وكريما، حتى قيل: إنه ما من شخص عاداه وبقي حيا يرزق إلا عاد إليه طوعا بسبب حسن تعامله وصدقه مع الناس». يقول خير الدين الزركلي «إن عبد العزيز ابتسم مرة في مجلسه وفي ضيافته الشيخ نوري الشعلان - رحمه الله - شيخ قبائل الرولة العنزية، ففسر عبد العزيز ابتسامته للضيف قائلا : هل ترى هؤلاء الجالسين حولك يا أخ نوري؟ ما منهم أحد إلا حاربته وعاداني وواجهته. فرد الشيخ نوري قائلاً: سيفك طويل يا طويل العمر، فأوضح عبد العزيز أن السبب لم يكن السيف فقط قائلاً: إنما أحللتهم المكانة التي لهم أيام سلطانهم، إنهم بين آل سعود كآل سعود». ويشير الملك سلمان إلى مواقف الملك عبد العزيز مع معارضيه «إذا نظرت إلى من كان يصحبه دائما في سيارته الخاصة فسوف تجد أن معظمهم كانوا من معارضيه وأصبحوا من أخلص رجاله بل أصبحوا من أقرب الناس إليه». يشدد الملك سلمان «تلك هي إنسانية الملك عبد العزيز التي حولت الخصوم إلى مخلصين إلى درجة أن صار بعضهم من بين حراسه الشخصيين ومن كبار موظفيه ومرافقيه. فها هو ذا سليمان بن عجلان - رحمه الله - أحد كبار حراس الملك عبد العزيز يقف على رأسه لحمايته على الرغم من أنه ابن لخصمه «عجلان» الذي انتصر عليه الملك وقضى عليه في أثناء اقتحامه ورجاله الأوفياء المصمك لاسترداد الرياض».
العدل والإنصاف
يتصف الملك عبد العزيز بالعدل وهنا يقول الملك سلمان في محاضرة جامعة أم القرى: «العدل سمة أساسية لأنه من جوانب الدين، ومقتضى الحكم الصحيح فكان عدله واضحا، لا يقبل الظلم أبدا. والشواهد كثيرة على عدل عبد العزيز وإنسانيته، إذ كتب أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب» كان الملك عبد العزيز يراقب قافلة أناخت بالقرب من مخيمه في العقير، وكان فيها جمل متعب فطلب صاحبه وأبلغه أن يترك الجمل يرعى ولا يعيده إلى القافلة رأفة به، وقال الملك للريحاني «العدل عندنا يبدأ بالإبل ومن لا ينصف بعيره يا حضرة الأستاذ لا ينصف الناس». ويروي الملك سلمان «في موقف إنساني آخر نجد أنه يضع نفسه محاميا عن المحتاج إلى أن يحصل على حقوقه فها هي المرأة المسنة من أهل مكة المكرمة تصل إلى باب قصره في مكة تشكو إليه أمرا في قضية ميراث لها قائلة: ليس لدي من يدافع عن قضيتي، فأخذ جلالته ما بيد تلك المرأة من أوراق قائلا: إنه وكيلها في هذا الأمر، وتابع الموضوع شخصيا مع المحكمة الشرعية حتى انتهت قضيتها».»ومن المواقف الإنسانية الأخرى حرصه على مصالح المواطنين وحاجتهم والدفاع عنها وإبراء ذمته - رحمه الله -، فيروي الأخ الدكتور محمد عبده يماني نقلا عن عبد الله كامل - رحمه الله - أنه عندما شحت الموارد المالية في بعض السنوات وأصبح من الصعب دفع كامل مرتبات الموظفين بسبب الحالة الاقتصادية الضعيفة طلب من عبد الله السليمان وزير المالية - رحمه الله - ومستشاره حافظ وهبة ـ رحمه الله ـ اقتراح حل لهذه المشكلة فرفعا اقتراحا للملك مضمونه أن يسرح نصف الموظفين كي تتمكن الدولة من دفع مرتبات النصف الآخر، وانزعج الملك من هذا الاقتراح، ووجّه لهما كلاما شديدا، وقال: أنتما اثنان، وعليكما أن تبدآ بتطبيق هذا الاقتراح بتسريح أحدكما مثل الآخرين. فارتبكا ارتباكا شديدا، وقال لهما الملك: تسريح هؤلاء الناس في وقت لا توجد لهم فيه أعمال هو ضياع لهم ومؤثر في مصالحهم وحياتهم، وبدلا منه عليكما تخفيض الرواتب إلى النصف على الجميع، وبذلك يتم الإبقاء على الجميع إلى أن يغير الله الحال. هذا هو عمق العدل والإنسانية والثقة بالله - سبحانه وتعالى -، والمحافظة على حقوق الجميع دون استثناء». ويزيد «في سنة 1355 أبرق موظفو اللاسلكي إلى جلالته بأنهم وعائلاتهم في ضنك شديد بسبب الأوضاع الاقتصادية التي شملت البلاد وأنحاء العالم ووجه - رحمه الله - برقية إلى وزير المالية قائلا«وهذا حقيقة، إنهم كما ذكروا وأزود، وتركهم شيء مخالف للعقل والناموس.. حالا تشوفون مسألتهم بكل ممكن وتصرفون لهم هم وغيرهم من الموظفين وتجعلونهم دائماً على بالكم». هذه هي إنسانية عبد العزيز التي تشمل جميع المواطنين وتحرص عليهم وتؤكد تلبية حاجاتهم وحقوقهم.
خاتمة:
اللهم اغفر للملك عبد العزيز واجعله مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في جنات النعيم يأنس بقربهم في جوارك يارب العالمين وحسن أولئك رفيقاً.
** **
- الزلفي