د. محمد بن إبراهيم الملحم
المجال الخامس من المجالات العشرة التي توصلت إليها الدراسة الأمريكية للتغيير الذي أنتج مخرجات تعليمية مميزة هو «نظام محاسبية جيد ومفعل بالكامل»، مع أني قبل أن أقرأ المجالات العشرة توقعت بعضها مثل: الأنظمة والمناهج والمعلمين، ولكني لم أتوقع أن يكون بينها هذا الجانب، ظناً مني أن الشكوى من ضعف نظام المحاسبية هو لدينا في الدول العربية فقط، فنحن نتعاطف مع زملائنا، ولدينا واسطات، كما أن العلاقات الاجتماعية الواسعة تفرض علينا نوعاً من التعامل تذوب معه المحاسبية كثيرًا وتبقى في نطاق محدود جدًا هو ارتكاب المحظورات أو الأفعال ذات الطبيعة الضارة جداً أو التعدي على المال العام مثلاً، فعندئذ «النظام لا يرحم»، بينما ما يتعلق بالجودة النوعية فلا محاسبية فيه، وتقتضي ثقافتنا السائدة أن من يتوقف عند هذه الجوانب «معقد» و»يتفلسف»، ولكي يفهم المقصود بالمحاسبية عن الجودة النوعية فلا أقصد بها مطالبة الموظف بتحقيق أفضل جودة أو أفضل الممارسات بمستوى منافس، وإنما تحقيق حدها الأدنى الذي يكفل أداء إنتاجيًا بمخرجات حقيقية، ويكفي لتحديدها وفهم معناها بشكل دقيق أن نقول إنها تلك التي إن فقدت تشاهد عندئذ ظواهر مثل: التقصير، اللا مبالاة، الاستهتار، التسيب، إهدار الموارد، عدم السعي للتحسين (ولا أقول للتطوير)، كل ذلك يسانده ظاهرة «قيادية» رديفة هي «دبر حالك» و»تصرف» و»مشي الحال»، وأهم الأسباب هنا هو غياب التقييم الأصيل، الذي هو أداة المحاسبية الأولى، حيث المسؤول ليس لديه وسيلة للتعرف على حسن الأداء بدقة فالجميع سواسية في أدائهم طالما الطلاب ناجحون ودرجاتهم «زي الفل»، وهي مهمة ليست صعبة على المعلمين طالما أن الاختبارات والتصحيح ووضع الدرجات كلها بأيديهم، كذلك فإن غير المعلمين من الموظفين كلهم سواسية في أدائهم طالما أنه ليست على أحدهم «شكوى» تبين للمسؤول أن هناك تقصيرًا ما، ولذلك فلا شيء يبدع فيه موظفو المدرسة كالمدير والمساعد والمرشد مثل تغطية العيوب ومنع أسباب الشكوى أيا كانت ولذلك فإن طلبات الطلاب وأولياء أمورهم مجابة بغض النظر عن الجانب التربوي. وتوجد ظاهرة سواسية الجميع في الأداء على كل المستويات والرتب الوظيفية تقريبًا.
جميعا نتفق أن ضعف المحاسبية وغيابها مشكلة مؤثرة على أداء جميع مؤسساتنا الحكومية، وهي تتركز في نظام التقييم سواء في تصميمه أو في ممارسات تطبيقه، لكنما المؤسسات التعليمية هي أكثر الجهات الحكومية تأثراً بهذه الظاهرة لأنها تقوم على أداء الأفراد، وهي في نفس الوقت أكثر أفراداً بين كل الجهات الحكومية لذلك يلعب غياب محاسبية حسن الأداء فيها دورًا كبيرًا في تكريس ضعف المخرجات واستمرار ضعف تحقيق الأهداف التعليمية قبل أن نتحدث عن التفوق وتحقيق نتائج متقدمة في النتائج الدولية المقارنة.
وأؤكد أن حديثي منصب في نسبته الكبرى على محاسبية حسن الأداء وليس محاسبية الأداء نفسه، فمثلا نحن نعلم أن تغيب المعلم عن الدوام له نظام محاسبية موصوف بدقه، لكن ما حذف المعلم بعض موضوعات المقرر إن تمت المحاسبية فيه فهي تطبق بناء على الاجتهاد ولا توصفها بنود نظامية صريحة، ومع ذلك فلا يوجد أيضاً نظام محاسبية يوضح ما يترتب على من لا يحاسب مثل هذا المعلم متى ثبت سلوكه الخاطئ! ومثل ذلك يقال عن كثير من الممارسات الخاطئة التي تنخر في عظام جودة الأداء لتحقيق مخرجات حقيقية.
مثال آخر أكثر جلاء هو أننا متأكدون أن المعلم الذي يتسبب «عمدا» في رسوب طالب ناجح أصلا ينتظره أشد الحساب فما فعله لا يغتفره أولياء أمر الطالب ولا المؤسسة التعليمية، ولكننا لسنا متأكدين هل يحاسب المعلم الذي يتسبب «عمدًا» في نجاح طالب يفترض أن يكون راسباً في الواقع! أقول لسنا متأكدين ولا أجزم بالنفي لأن المسؤولين لا يصعب عليهم تكذيب مثل هذا الظن إن وضع على طاولة البحث في مثل هذه المقالة لكن ما الممارسات السائدة تقول شيئًا آخر وربما تؤكد أن المحاسبة لن تتم بالطبع، ولا أدل على ذلك من المشاهدات المتكررة لطلاب لا يتقنون القراءة أو الكتابة وقد وصلوا الصف الثالث أو الرابع الابتدائي.
أخيرًا: يقول خبراء الجودة إنها يمكن أن تعرّف بما يلي «أكتب ما تريد أن تفعل ثم افعل ما كتبته»، وبالمثل فإن جودة المحاسبية هي أن تكون مكتوبة بشمولية لكل الممارسات الخاطئة كبرت أم صغرت وذلك لتقدم نذيراً للعاملين، ثم بعدها يجب أن تطبق بدقة وفعالية لتؤتي أكلها ويتحقق من خلالها حسن الأداء وجودة المخرجات، أخيرًا أتساءل: هل لدينا محاسبية فعالة؟! أترك الحكم لكم... وللحديث بقية مع بقية مجالات التغيير التعليمي القياسية.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً