أسامة عزالدين
لم تكن هناك أصداء ذات قيمة لتقرير المخابرات الأمريكية الخاص بمقتل المواطن السعودي «جمال خاشقجي»، وهو التقرير الذي لطالما كثرت الأقاويل حوله قبل الإعلان عنه من كل خصوم المملكة وأعدائها، بدعوى أنه يحتوي على حقائق ومعلومات حول الحادثة، ثمّ خرج خاليًا من هذا كله فهو عبارة عن مجرد انطباعات وتقديرات وكلام مرسل يعبر عن خصومة سياسية، ليست فيه معلومة أمنية واحدة ولا حجة قانونية متماسكة، ما شكّل صدمة لكل الذين راهنوا عليه، هذا إلى جانب كم التساؤلات التي أثارها بشأن تداعياته المحتملة على مستقبل العلاقات السعودية - الأمريكية.
غير أن قرار «بايدن» بالإفراج عن التقرير في الأسابيع الأولى من فترته الرئاسية يبدو أنه جاء لعدة أسباب نذكر منها:
أولاً: تنفيذًا لوعوده الانتخابية بعد انتقادات طالت سلفه «ترامب» بتجاهل إصدار التقرير، خاصة أن تعويل «بايدن» على دعم الجناح اليساري داخل الحزب الديمُقراطي دفعه إلى إطلاق التقرير.
ثانياً: أرادت الإدارة الجديدة أن تشعر الناخب الأمريكي، وخاصةً اليسار الذي أوصلها للحكم أنها عملت له إنجازًا، حتى لو كان تقريرًا فارغًا من الحقائق، خاصة في ظل معاناتها نتيجة تفشي جائحة كورونا وما خلفته من كارثة صحية واقتصادية وإنسانية وامتحان للقيم والمصالح الأمريكية، فالعنصرية والبطالة والفقر والانقسام والانكفاء عن العالم، كلها شكلت عبئًا على إدارة ولدت بعد مخاض ديمقراطي هو أقرب لديمقراطية العالم الثالث.
ثالثاً: يبدو أن فتح ملف «خاشقجي» هدية تقدمها واشنطن لطهران لبدء المفاوضات حول ملفها النووي، حيث حرصت على إظهار التشدد الدبلوماسي تجاه الرياض والدبلوماسية مع طهران.
رابعاً: تريد الإدارة الجديدة استخدام هذا الملف كأداة لتحقيق سياساتها الخاصة في الشرق الأوسط، والاستعداد لمرحلة جديدة من الابتزاز والتنازلات.
خامساً: تندرج المسألة على جسارتها داخل إطار الجلبة الداخلية الأمريكية، والتي على ما يبدو يحتاجها «بايدن» والديمقراطيون لتموضع حكمهم في أعقاب حكم «ترامب»، كظاهرة ما زال ظلها يهدد الأداء السياسي العام. ولأن جوهر الحدث داخلي المفاعيل، فإن واشنطن ارتأت تدوير زواياه الخارجية، لاسيما في العلاقة مع الرياض وبقية حلفاء واشنطن في المنطقة.
سادساً: من السهل الاعتقاد أن الرئيس «بايدن» يشعر بحصار نتيجة التوسع والتأثير الذي حققته ظاهرة «الترامبية»، التي استندت إلى مسارات مختلفة في قيادة الولايات المتحدة. وعلى ما يبدو أن واشنطن تثأر من الرياض التي بدأ منها الرئيس «ترامب» أول رحلة عمل له خارج البلاد، امتدادًا لسلسلة من القرارات التي اتخذتها، ولا تزال تتخذها الإدارة الجديدة انتقامًا من الإدارة السابقة ورئيسها. ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض، اتخذ «بايدن» وجهة نظر معاكسة لسياسات «ترامب»، ظهر ذلك في رغبته في التوصل إلى صفقة جديدة مع النظام الإيراني بشأن حيازة أسلحة نووية، تحولاً آخر لسياسة «الضغوط القصوى» التي انتهجها سلفه.
ولا غرابة إذاً أن ينطوي التقرير الأمريكي على تكهنات وتحليل من دون إيراد معلومة، مما أدى إلى صدمة حتى لدى بعض الإعلام الأمريكي المعروف عنه تحريضه ضد المملكة، حيث أطلق أحكامًا مباشرة دون استناد إلى دلائل أو أساليب بوقائع محددة لتوجيه الاتهام، وهذا بخلاف التقارير الموثقة، فالتقرير مُسيّس، وملون سياسيًّا، ويتبنى وجهات نظر استباقية سبق أن تكررت وتناقلتها وسائل إعلام مغرضة، كما أنه ليس مبنيًّا على حقائق، لكن فقط رؤى متباينة بها تجاذبات وتكرار للحادثة نفسها. الأهم من ذلك، أنه بمثابة بيان عما يُعتقد أنه حدث دون وجود أي دليل، حيث استخدم عبارات تشكك في صحته، من قبيل (نقدر، نتوقع، نظن، من المحتمل، لا نعرف).
وعند إجراء مقارنة علمية بين هذا التقرير السطحي، وبين ما اتخذته المملكة من إجراءات تجاه القضية ذاتها، يظهر بوضوح حجم الاحترافية السياسية السعودية، وحجم التسطيح والانطباعات العاجلة وغير العلمية في تقرير «سي آي إيه»، وقد ظهر ذلك في سرعة إصدار الخارجية السعودية بيانًا للرد على التقرير بعد دقائق من صدوره، وهو ما يؤكد قوة موقفها، وأنه ليس لديها ما تخفيه أو تخشاه.
ومنذ اللحظات الأولى للواقعة، اتخذت المملكة الإجراءات القضائية الكافية فيها، وقدمت مرتكبيها للعدالة، وصدرت بحقهم أحكام نهائية رحبت بها حتى أسرة «خاشقجي» نفسها، وتم التعهّد بإصلاح أجهزة الاستخبارات، فيما حضر جلسات المحاكمة ممثلون من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وممثلون عن المنظمات الحقوقية الدولية، وأبناء المجني عليه، مما يعكس منهج الشفافية التي طبقتها السلطات القضائية السعودية بما يتناسب مع أنظمتها المعتمدة، الأمر الذي كان محل إشادة وترحيب من المجتمع الدولي، رغم إصرار وسائل إعلام مضللة على الاستمرار في نشر الأكاذيب والمزاعم. وفوق هذا وذاك، فإن السلطات القضائية السعودية هي المعنية وحدها بمحاسبة المتورطين في هذه القضية، كما أن الاستخبارات الأمريكية التي أصدرت التقرير ليست جهة حكم أو قرار دولية، فقضايا حقوق الإنسان لا ينبغي تسييسها.
ولعل قضية «خاشقجي» ليست القضية الوحيدة التي تم تسريب كمية من المعلومات غير الصحيحة عنها، حيث يمكن تذكر قضية العلاقة بين إدارة «ترامب» و»العملاء الروس»، والتي ضخمتها الاستخبارات الأمريكية، واتهم ترامب بموجبها بالخيانة والعمالة، وبعد إجراء التحقيقات اللازمة تبين براءته، وأن كل هذه الاتهامات كانت لدوافع سياسية محضة. ولعل مثل تلك التحليلات والتخمينات قد أثارت انتقادات رؤساء أمريكيين سابقين، مثل «نيكسون» الذي أطلق على هؤلاء المحللين «مجموعة من المهرجين»، والرئيس «جونسون» الذي تساءل مرارًا عن ماذا يفعل هؤلاء المحللون في مبنى الـ»سي آي أيه»، وحتى الرئيس «ترومان»، الذي تأسست الاستخبارات الأمريكية في عهده انتقدها لاحقًا في مقال بصحيفة «واشنطن بوست» عام 1963، بقوله: إن «الاستخبارات تستخدم لدفع الرئيس أو التأثير عليه لاتخاذ قرارات غير حكيمة، ويجب أن تعود كما كانت مؤسسة موضوعية لا تخدم أي أجندات»، وقد شاهد الجميع في الماضي كيف أن بعض التقارير الاستخبارية المبنية على استنتاجات خاطئة ترتبت عليها نتائج كارثية في المنطقة، كالحرب على العراق.
وإذا كانت المملكة قد تحملت بتواضع وصبر كل الهجمات الإعلامية والتحريض السياسي ضدها، فقد ارتكبت وكالة المخابرات المركزية من الجرائم البشعة ما لا حصر له ضد المئات، وربما الآلاف من الأبرياء، ولم تعتذر عن أيّ جريمة، وهناك الآلاف من الأدلة التي تثبت تورط القوات الأمريكية تحت عهدة «رامسفيلد، وديك تشيني، والرئيس جورج بوش»، في جرائم التعذيب والقتل والاغتصاب والنهب ما لا حصر له، ليس هذا فحسب، إذ شُنت هجمات بأسلحة محرمة وهدمت عشرات الآلاف من المنازل على رؤوس ساكنيها حتى تحولت مدينة مثل الفلوجة إلى نموذج صارخ للوحشية. ولم تقم الولايات المتحدة بمحاكمة ضابط رفيع واحد، وألقت بالمسؤولية على مجندين صغار، فحسب، وسجل الجرائم التي ارتُكبت في سجن أبو غريب تعد دليلاً واسعاً على الانحطاط البشري بأسوأ صوره.
وفوق هذا، فإن الجميع يعرف مكانة السعودية في المنطقة والعالم، ويعلم قيمتها السياسية والدينية والاقتصادية، ودورها الرائد في ترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة وعلى المستوى الإقليمي، فضلًا عن سياستها الداعمة لحفظ الأمن والسلم الدوليين، ودورها الرئيسي في مكافحة الإرهاب والعنف والفكر المتطرف، والسعي الجاد لإحلال الاستقرار والسلام في العالم، وترسيخ ونشر قيم الاعتدال والتسامح على كل المستويات.
أما ما يدور حول الشراكة بين واشنطن والرياض، فإنها شراكة قوية متينة، ارتكزت خلال الثمانية عقود الماضية على أسس راسخة، فضلا عن أن واقعية المصالح تفرض نفسها على سياسة أي إدارة أمريكية تجاه السعودية الرقم الذي لا يمكن تجاوزه في الكثير من الملفات الدولية؛ كالطاقة والأمن واستقرار المنطقة، كما أن التاريخ الطويل من التعاون الاستراتيجي بين البلدين تعلم منه الاثنان أنه دائمًا يمكنهما تجنب الاختلاف وحل النزاعات، وهو ما شكل إطارًا قويًّا لشراكة البلدين الاستراتيجية.
ويبقى أن مثل هذه «التقارير الافتراضية»، التي تُبنى لغايات الاستهداف والابتزاز السياسي مرفوضة في ظل تطور الفكر السياسي العربي المعاصر، والتي تمثل السعودية أحد أهم الفاعلين فيه، حيث تصدرها أجهزة مخابرات دولية ودول كبرى على النحو الذي يسهم في تحقيق غاياتها ومقاصدها السياسية، والاعتماد عليها كآليات مسيئة لممارسة الضغوط على الدول، وصرف الانتباه عن أزماتها الداخلية كما يحدث الآن في أمريكا.
** **
- صحفي مصري