الكبد لفظة ذات دلالة جلية، لا غموض فيها، فيقال تَكَبَّدَ العَدُوُّ خَسائِرَ فادِحَةً في العَتادِ والأرْواحِ: قاسَاها وَتَحَمَّلَ خَسارَةً وكذا (مُكَابَدَةُ) الجُوعِ: تَحَمُّلُ مَشَاقِّهِ وَوَطْأَتِهِ.
وإجلاء ذاك ما جاء بالذكر الحكيم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} روى ابن كثير في تفسيره «عن الحسن قرأ هذه الآية: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} قال: يكابد أمرا من أمر الدنيا، وأمرا من أمر الآخرة، وفي رواية: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة»..
و(لقد) التي بصدر الآية تعني تحقق هذا القدر لأن (تَكَبَّدَ الفلاةَ): قَدَرَ عليها، فهو مخلوق على قياس أن يتحمل، لأن الله (لا يكلف المرء فوق طاقته) وإفاضة ما تجده باللغة:
«قد» إذا أضيف إلى الفعل المضارع تفيد التشكيك، و»قد» إذا أضيفت إلى الفعل الماضي - مثل سياق الآية الآنفة - تفيد التحقيق وزيادة المبنى زيادك للمعنى/ فإن قد: حرف يفيد التحقيق إذا جاء مع الفعل الماضي. مثل: {قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ}. قد: حرف يفيد التشكيك إذا جاء مع الفعل المضارع. مثل: «قد يفشل التلميذ».، لكن لقد تفيد التأكيد دائما، مثل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} والمكابدة بالدنيا هي على قسمين، قسم لزامي ما ليس للمرء فيه اختيار، مثل أحمال الدنيا، من أتعاب وهموم وأحزان، والآخر في طلب المعاش، بل حتى في أدناه وهناك ثالث لكنّه تكلّف ليس بالمرء.. الحصيف المضيّ خلفه، وهو ما فصّل فيه العشاق من أحوالهم وأهوال ما ذاقوا في ذكر مكابدة الأمور الصعاب عند طلب رضا الأحباب وخوض الأهوال واستهلال قضاء الآجال، حتى.. قال قائلهم في (نِعم)- اسم محبوبته-:
من لم يجد في حب «نعم» بنفسه...
وإن جاد بالدنيا إليه انتهى البخل
أي ذاك الذي لا يجود لمن يحب فقد أمسى نعت البخل وقفا عليه!
أزيدكم توسّعا/ بما قاله أبو العيناء
وَمَا كَيِّسٌ في النَّاسِ يُحْمَدُ رَأْيُهُ
فَيُوجَدُ إِلاَّ وَهْوَ في الحُبِّ أَحْمَقُ
وَما مِنْ فَتىً مَا ذاقَ بُؤْسَ مَعيشَةٍ
مِنَ الدَّهْرِ إِلاَّ ذَاقَها حِينَ يَعْشِقُ
وحتى «ابن القيم» وهو الفقيه كيف يأخذ هذا الجانب منه حظّا، ما حمّل مهجته
التي.. تتحمل من المحبوب حتى و/
إنها لتعجز عن حمل القميص.. وتألمُ
ونعود لوشائج -تداخل- ما بين القسمين الأوليين منه فإن الإنسان ومهما ملك أو حاز من متع الدنيا فإن في خلجاته من المشاعر الحزينة لمواقف أو أحمال أوحتى (فضول) عيش يرتجي بلوغه مما هو مكبوت، كما ولديه من كمّ الأوجاع ما يظن أنه تنوء عن حمله ذو العصبة، حتى تنادى لتخفيف تلكم نزار/
ما علينا إذا جلسنا بركن
وفتحنا حقائب الأحزان..
فهو.. إلا وما اختلى بنفسه هيجت لديه رواكده، وربما نقضت غزل أنس ما مرّ به وسئل من رتع بدنياه، وتقلّب في نعيمها لأن الله كتب عليه هذا - كما أثبتنا بما تقدّم، ولهذا ينصح المرء الذي تتكاثر عليه ظباء همومه، أن يختلط بالناس، ليسلى عن ذاك الوتر الحزين الذي تعزفه النفس عليه كلما اختلى!
وبين الأمرين فروق، فتجد مَن أوجاعه مادية - مالية-، وهذا ربما عزّى نفسه أنه إذا انفرجت أحواله سينقلب ذاك البؤس على النقيض، وذهب خلف أمانيه المكبوتة لها طالبا، أو على رُباها مقيما، والحقيقة أن هذه (الفُرجة) وإن كانت بوادرها لديه كذلك، لكنه سرعان ما يستجدّ له جديد أو تنشأ بداخله منى أخرى تجعله ينصرف عما قريب من متعة ما بلغه!، فأبيات العقاد مسبطرة لأدنى من رام هذا الجانب
رب المال في تعب
وفي تعب من افتقرا
أي على الحالين تجده متعبا!
ولا عجب، فالناس ها هم أمامك..
فكم ممن طمح لمنصب أونال حلم-شهادة- أو...، فإذا تلك الأفراح التي اكتحلت بعينه يومها قد أزلفته به إلى ما بعد ذلك، ولا يقف المرء إلا كما أوجز الحديث (.. ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب)..، لأنه لحظتها وقد ذهب الى مثواه بلباس ليس له جيوب- الكفن-..!، وفي هذا كناية بالغة {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.. وأعيا أن ما جمعه ذهب وتركه ولهذا أو من هنا يُنعت ما بعد الميت من مال، وضياع.. إلخ بـ(التركة)!
فهذا ما يجعله يستقلّ قدر أي أثير..
مهما كان عزيز القدر، أو المكانة- لديه-، وفي هذه كل العِظة..
لكن يا قوم.. من يعقلها.. سوى من استثنى المولى تعالى: ..{إِلَّا الْعَالِمُونَ} وهم يا بني ديني وليس يا قومي/
الراسخون في العلم المتضلعون منه.
فاستوطنت بهم تلك الحقيقة، حتى لا مناص لها عن وعيهم، أو همُ لا يعدونها فأولئك ومهما نالوا من دنياهم، تجد تلكم باقية بأيديهم، ما قد لا يكترثون مما قلّ منها أو زاد، كما ولا أثير عندهم لما حازوه من الدنيا، إمامهم بهذا نبيّ الأمة الذي كان (.. يعطي عطاء من لا يخشى الفقر)، لأنه يستوطن قلوبهم دلالة (.. سوى ذكر الله وما والاه) صدق حبيبنا -صلى الله عليه وسلّم-.. الذي أخبر عن ذاته والدنيا موجّها (.. كرجل قال عند شجرة) وبعد أن أخذ قسطا من الراحة.. (ذهب وتركها)، غير آسف على ما أسلف بها.
لأن الوعي الحقيقي مبلْغا أن/
السلامة من الدنيا ترك ما فيها..
لأن أولئك همُ القليل الذي أخبر عنهم ربهم مزكّيا {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}..
فإن غالبت أحدهم الدنيا فعلى قوت يومه يدندن، ولا يعدو....
إشارة/ قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثني ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: عقلت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألف مثل.