د.عبدالله بن موسى الطاير
التطبيع الشامل بين أمريكا وإيران في ظل نظامها الحالي مجرد أمنيات لا أكثر؛ فثورة الخميني قامت ضد الأمريكيين ونظام الشاه على حد سواء؛ وبنص ديباجة الدستور الإيراني فقد أدت معارضة الخميني «العارمة للمؤامرة الأمريكية (الثورة البيضاء)... إلى انطلاق حركة شعبية موحدة تحولت مباشرةً بعد ذلك إلى ثورة في شهر يونيو 1963م»، ولذلك فمن الطبيعي أن ينسحب عداء الثورة على الشاه وأمريكا بالقدر ذاته.
أعلن الشاه محمد رضا بهلوي في يناير 1963 م، عن برنامج إصلاحي أطلق عليه اسم «ثورة الشاه والشعب» وعُرف لاحقاً بالثورة البيضاء، وهدف إلى توظيف الإمكانات المتاحة للقضاء على الظلم والاستغلال، والتقاليد البالية كافة؛ قضت الثورة البيضاء على النظام الإقطاعي، وأكدت على حتمية تأميم الموارد الطبيعية، باعتبارها «ملكًا لجموع الشعب الإيراني»، كما قضت الثورة البيضاء ببيع «أسهم المصانع والشركات الحكومية»، وطرح «أسهم المعامل والمصانع للبيع».
وقد أوجع المتدينين أن الثورة البيضاء أعطت للمرأة الحق «في الانتخاب، لتحقيق مبدأ المساواة الكاملة في الحقوق السياسية والاجتماعية بين الرجل والمرأة». كما أعلن الشاه عن ضرورة تطبيق «الثورة الإدارية في أكتوبر 1967 للتخلص من المركزية المتغلغلة في الجهاز الإداري».
ثورة الشاه البيضاء حملت للإيرانيين الكثير من الأمل في مستقبل ناهض عنوانه العدالة والمساواة وتمكين المرأة، ولكن رجال الدِّين عارضوا تمكين المرأة، حيث وجدوا في مساعي الشاه إلى تمكين المرأة مبرراً «للدفاع عن الدِّين؛ فخروج المرأة إلى الانتخاب ومساهمتها في العمل السياسي والحزبي يعرضها إلى مخالفة الإسلام، كذلك أن المساواة بين النساء والرجال يُخالف الشريعة، ومِن هذا الباب أعلن الاحتجاج ضد الثورة البيضاء، إضافة إلى تضخيم ما جرى من اتفاق مع واشنطن على عدم خضوع العسكريين الأمريكان للمحاكم الإيرانية»، وكان الخميني يتزعم الحركة المعارضة.
ولدت الثورة الإيرانية وهي ترفع شعار العداء لأمريكا، متعهدة باستئصال شأفة النظام الملكي وكسر الهيمنة الأمريكية، وتم بمساعدة الإعلام الغربي بيع هذه الشعارات للرأي العام الإيراني، ومن ورائهم للشيعة عرباً وأعاجم. وبذلك يتعذر في الوقت الراهن تراجع ولاية الفقيه عن خصومتها الظاهرة التي جاءت بها إلى الحكم، فأي تطبيع علني مع أمريكا سيعني ارتخاء قبضة ولاية الفقيه الأيديولوجية والثقافية وبالتالي بدء عدها التنازلي.
خلف الشعارات المعلنة قصص وسيناريوهات مغايرة يصعب تأكيدها، كما يصعب نفيها، لكننا سنكتفي منها بالوقائع الملموسة. استعرض رشيد الخيّون كتاباً مثيراً للاهتمام عنوانه: «الخميني في فرنسا الأكاذيب الكبرى والحقائق الموثقة حول قصة حياته وحادثة الثَّورة»، ومما نقله الخيّون عن المؤلف أن الشهرين اللذان قضاهما الخميني في باريس كانا عبارة عن دورة مكثفة في الثورة للإطاحة بالشاه. ويبرز الكتاب دوراً حيوياً لعبه الأمريكي- الإيراني إبراهيم يزدي، الذي كان على اتصال بالدوائر الأمريكية، ورافق الخميني إلى باريس، كناطق باسمه ومترجماً له، وكان حلقة الوصل مع المخابرات المركزية الأمريكية.
وعلى الرغم من تبني الشاه لعديد من النصائح الأمريكية في الإصلاح الداخلي فقد أخطأ بتمسكه برفع أسعار النفط، والسعي للاكتفاء الذاتي في إنتاج الأسلحة، وإهماله المصالح الأمريكية والأوروبية، وتكراره التصريحات عن «إيران عظمى قد تستغني عن القوة الغربية».
كان عُود الخميني يشتد في الضاحية الباريسية يوماً بعد آخر، وهو يستقبل الوفود من داخل إيران ومن مجاميع الصحافيين الغربيين الذين قدموه بطلا ثائراً في وجه شاه في إيران، وحظي بدعم إعلامي غير محدود، وأسهمت السفارات الغربية في وصول أشرطته ورسائله للشارع الإيراني، وكانت «بي بي سي» البريطانية قناة للثورة وإذاعة لها، والليموند الفرنسية صحيفتها كما يشير الكتاب. فكيف حدث العداء الفج بين الخميني والأمريكيين؟ هناك تفسيران من وجهة نظري، أولهما أن الخميني تأثر بتخلي أمريكا عن حليفها الشاه، الذي جعل إيران ذيلاً لها، وعمل على تغريب المجتمع الإيراني من أجلها، وبذلك وضع الخميني العداء المعلن بينه وبين خيانة أمريكا للشاه، أو أن طبيعة النظام الذي أسسه الخميني وهو إسلام سياسي شيعي قد انقلب على أمريكا وأوروبا، وهذا هو التفسير الثاني.
ومن نافلة القول إنه وإن تعذر التقارب العلني بين الأمريكيين والإيرانيين إلى درجة ما نراه من علاقات طبيعية بين الدول، فإن التواصل السري بينهما لم ينقطع حتى في أشد الظروف حساسية كفترة احتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين في السفارة في طهران لنحو 444 يوماً، ثم ما تلا ذلك من صفقة التسليح لإيران التي استمرت نحو 5 سنوات.