د. عبدالحق عزوزي
نبغت في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية الآلاف من العالمات المبرَّزات والمتفوقات فى أنواع العلوم وفروع المعرفة وحقول الثقافة العربية والإسلامية، وقد ترجم الحافظ بن حجر فى كتابه «الإصابة فى تمييز الصحابة»، لثلاث وأربعين وخمسمائة وألف امرأة، منهن الفقيهات والمحدثات والأديبات. وذكر كل من الإمام النووى فى كتابه «تهذيب الأسماء واللغات»، والخطيب البغدادى فى كتابه «تاريخ بغداد»، والسخاوى فى كتابه «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، وعمر رضا كحالة فى «معجم أعلام النساء»، وغيرهم ممن صنف كتب الطبقات والتراجم، ذكروا تراجم مستفيضة لنساء عالمات فى الحديث والفقه والتفسير وكذلك لأديبات وشاعرات
وفي صفحات تاريخ الحضارة الإسلامية لنا شواهد لنساء فضليات ما زالت أعمالهن تشهد لهن بنبلهن وبعد نظرهن، ولعل أفضل مثال ناطق هو جامعة القرويين بمدينة فاس بالمغرب وهي أول جامعة أنشئت في تاريخ العالم، وأقدمها على الإطلاق وبنيت الجامعة كمؤسسة تعليمية لجامع القرويين الذي قامت ببنائه السيدة فاطمة بنت محمد الفهري عام 245 هـ/ 859م، وهذا المشروع ظل إلى اليوم شامخا ناطقا يرفع من شأن المرأة المسلمة إلى يوم الدين... وحسب موسوعة جينيس للأرقام القياسية فإن هذه الجامعة هي أقدم واحدة في العالم والتي ما زالت تُدرس حتى اليوم. وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تعد أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين: فقد تأسست أول جامعة في أوروبا وهي جامعة ساليرن سنة 1050 ميلادية في إيطاليا، ثم أصبحت معروفة بمدرسة نابولي. ثم تأسست جامعة بولونيا للحقوق. ثم جامعة باريس، ثم تأسست جامعة بادوا سنة 1222م، ثم جامعة أكسفورد عام 1249 م، ثم جامعة كمبدرج عام 1284 وجامعة سالامانكا في إسبانيا سنة 1243م. أما جامعة القرويين فهي أقدم جامعة ظهرت قبل أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنوات.
ولقد وجد المؤرخون كما يكتب العلامة عبدالهادي التازي، رحمه الله، في جدران هذه المؤسسة العظيمة، وفي كراسيها العلمية، وفي مرافقها العديدة الدالة، وفيما مر بها من رجال، وما شاهدته من أحداث، وما مر بها من ظروف وصروف، وجدوا في كل ذلك فصولا تختصر ترجمة السيدة فاطمة وترسم الخطوط الكبرى لما يمكن أن يقال عنها؛ ويكفي أن نذكر أن ابن أبي زرع في كتابه (الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس) خصص حديثا طويلا للحديث عن هذا الجامع، وصفته وما زيد في كل زمان، من حين أسس إلى وقت تأليف الكتاب عام ستة وعشرين وسبعمائة. وعلى هذا النحو أيضا خصص أبو الحسن علي الجزنائي فصلا مسهبا من كتابه (جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس) للحديث عن جامع القرويين بما يشتمل عليه من أثاث فريد من نوعه اكتسبه على مدى السنين مما كان مصداقا للعبارة الصغيرة والعظيمة في ذات الوقت التي قالها ابن خلدون وهو يسجل مبادرة السيدة أم البنين قال: «فكأنما نبهت عزائم الملوك من بعدها».
ولا جرم أن الفتح الإسلامي قد امتاز من بين الفتوحات الأخرى بأنه جاء يحمل «كتابا» ولذلك نرى أن التعليم كان في صدر ما يهتم به الإسلام، ولما كان المسجد هو المركز الوحيد لتجمع المؤمنين فقد كان بالذات هو المدرسة الأولى، وبهذا نستطيع أن نقول، إن مسجد قباء كان أول معاهد التعليم في المشرق وأن أول مدرسة اختطت بالشمال الإفريقي كانت في القيروان، وتبعت كلا من الأول والثاني، مساجد انتشرت هنا وهناك كجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بالمغرب، وجامع الأزهر بمصر، الخ... بيد أن هذه المساجد لم تظل باستمرار مراكز للتعليم، ففيها ما انتهت الدراسة فيه منذ وقت مبكر، وفيها ما انقطعت منه ردحا من الزمان، لكن جامع القرويين بفاس تختص بأنها شيدت في مدينة وضع حجرها الأساسي لا برسم أن تكون بلدا تجاريا، أو مدينة صناعية، ولكن لتكون «دار علم وفقه»؛ كما أن العلماء والفقهاء هم الذين كانوا يشرفون على بنائها منذ اليوم الأول؛ ثم إن الدراسة فيها استمرت بصفة مطردة منذ الفترات الأولى، ولم تتفكك حلقاتها العلمية حتى في الأعوام التي كانت تتم فيها أعمال الترميم والبناء، وحتى عندما اتخذت دولة المرابطين عاصمتهم مدينة مراكش سنة 462هـ (1170م) ظلت القرويين مركز «إشعاع علمي» وظل قضاة «العاصمة الجديدة» يبعثون بأبنائهم للتزود من أفاويق لبان القرويين، الأمر الذي لم تتخل عنه أيضا الأصقاع الجنوبية، ومدن الجهات الشمالية.