د. محمد بن إبراهيم الملحم
تحدثت في سردي السابق ضمن استعراض المجالات العشرة التي توصلت إليها الدراسة الأمريكية للتغيير الذي أنتج مخرجات تعليمية لمستها الدراسات الدولية عن أول ثلاثة منها هي: الأنظمة، والتناغم بين الرؤية السياسية والرؤية التعليمية، وأن يكون التغيير غير خطي Nonlinear ، بل إبداعي احتمالي، وأتحدث اليوم عن المجال الرابع وهو المعايير الواضحة للمناهج وإلى ماذا تهدف لتعلم الطالب، وهذا يعني أن بناء المناهج يرتكز على أسس مرتبطة أولاً بالتنمية وثانيًا بطبيعة المتعلمين وثالثاً يتسم بوضوح الأهداف التعليمية، فمخرجاتها المتوقعة محددة بدقة ووضوح، ومحدد معها كل المواصفات اللازمة لضبط الجودة في البناء والتقديم والقياس والتقييم، هنا تتوافق التوقعات مع المخرجات عندما يكون الأداء التعليمي جيدًا وفعّالاً، ويسهل معرفة هذا التوافق طالما أن التوقعات معرفة سلفاً بدرجة عالية من الوضوح تمثّلها الفعالية العالية في وثائق المنهج وبما يخدم كل المستويات بدءًا من منظمي السياسات ومرورًا بكتاب ومنفذي المنهج وانتهاء بالطالب نفسه. التساؤل هنا هو هل لدينا مشكلة مع المناهج؟ والجواب هو نعم بكل تأكيد. وهي عدة مشاكل وليست مشكلة واحدة، أولاً مسألة التنازع الأيديولوجي حول المناهج الأدبية وجعلها ساحة معركة بين عدة أطراف له آثاره السلبية على العملية التعليمية، علمًا أن المحتوى ليس هو ما يؤثِّر سلبًا (أو إيجابًا) بقدر ما هو دور المعلم نفسه وطريقته في توظيف هذا المحتوى فلئن كان للمحتوى دور ما فدور المعلم عشرة أضعافه. ثانياً متلازمة هوس الشمولية الذي يسيطر على تفكير صناع المناهج (بما في ذلك العلمية كالرياضيات والعلوم) ووقوعهم في شرك الكم، مما يجعل ثقل المناهج سلبية يصعب التعامل معها بمرونة بأي شكل من الأشكال وتظل كابوساً مزعجاً على كل الأطراف، المستفيد الوحيد هنا هم صنَّاع المنهج، حيث يفتخرون بشمولية مناهجهم ومضاهاتها لأي منهج دولي يمكنك أن تقارن معه، وهكذا هم في الطرف الآمن تماماً وأما الطالب والمعلم فعليهم أن يتصرفوا بشكل أو بآخر «ويدبروا حالهم». المشكلة الثالثة هي أيضًا مشكلة كم ولكن بطريقة أخرى وهي اختراع الموضوعات الجديدة سنة بعد سنة وضخها في سنوات الدراسة ومراحلها هنا وهناك، مثل التربية الوطنية أو اللغة الإنجليزية في الصفوف المبكرة وما إلى ذلك. المشكلة الرابعة التقليد الأعمى فمناهجنا لا بد أن تكون مماثلة لمناهج أوروبيةو أمريكية أو أسترالية، أي لا بد أن تكون عيونها زرقاء وشعرها أشقر، ولا أظن أن هذا ما سيوصلنا إلى القمر الذي وطأه أصحاب العيون الزرقاء، بل هو إبداعنا في الاستفادة من مناهجهم وتطويعها لما يلائم مستوى تعليمنا الحالي ويرتقي بالمتعلم المحلي بشكل تدريجي إلى ما نطمح إليه من تقدم واقتصاد معرفي منافس. ولأكون واضحاً أكثر هنا فإني سبق أن ذكرت إن الإغراق في مناهج العلوم والرياضيات في موضوعات لا تحتاجها مرحلة تأسيس العلم هو على حساب التوسع في الموضوعات التأسيسية بما يوثّق صلة الطالب بها ويجعله منتمياً لها أكثر، فعلى سبيل المثال في موضوع الفيزياء الذي تعاملت معه في مسيرتي التدريسية أجد أن طرح موضوعات مثل التداخل والحيود في الضوء أو نظرية الكم يمكن الاستغناء عنه لصالح التوسع في تطبيقات حياتية أكثر لموضوعات التوازن الميكانيكي أو مزيداً من تطبيقات الصوت والضوء والتي يستمتع بها الطلاب عادة ويشعرون بقيمة الفيزياء في الحياة، ويمكن الحديث عن بعض موضوعات الرياضيات بنفس الطريقة.
وحيث إن الشيء بالشيء يذكر فدعونا نتذكر جميعاً كم مرة خلال سنوات دراستنا كلها سمعنا السؤال التالي يطرحه أحد الطلاب على معلمينا: لماذا ندرس الرياضيات يا أستاذ؟ أو لماذا ندرس الفيزياء يا أستاذ؟ وهكذا لبقية المواد العلمية ... وأجزم أن أغلبنا (إن لم يكن كلنا) مر بهذه التجربة يوماً ما، وهذا وحده يكشف فشل المنهج في إقناع الطلاب بأهمية المادة وقيمتها لحياتهم والسبب الأكبر في ذلك هو الطريقة الجافة لتقديم الموضوعات العلمية فهي مجموعة معادلات ورموز ومسائل ولكن التطبيقات الحياتية قليلة وإن وجدت فلا تقدم بواقعية مقنعة للطالب. السيناريو فقير (وهو المحتوى هنا) والإخراج ضعيف (وهو التدريس) ولذلك يشعر الطلاب بنوع من الفجوة بينهم وهذه الموضوعات العلمية.
مرة أخرى أعيد التذكير بأن الجانب الرابع لنجاح التغيير التعليمي حسب الدراسة الأمريكية هو «المعايير الواضحة للمناهج وإلى ماذا تهدف لتعلّم الطالب» وهو ما يجب أن يكون حاضراً لدى كل الأطراف: صانع المنهج ومنفذه وكذلك الطالب نفسه، ذلك أن إدراك المتعلم لأهداف التعلم هو ما يقنعه أن المادة التي يدرسها اليوم لها قيمة مهمة في حياته غداً، وبدون ذلك سيكون شخصاً يمارس شيئاً لا يحبه ولا ينتمي إليه وأخشى أن تكون هذه هي حالة الأغلبية الساحقة من طلابنا وطالباتنا مع الأسف فكيف سنتفوق في العلوم والرياضيات ونخرّج علماء ومبتكرين!
** **
- مدير عام تعليم سابقًا