د.فوزية أبو خالد
كتبتُ الأسبوع ما قبل الماضي عن أمانة الكلمة التي تقتضي ألا يتخلى الكتُاب في الرخاء فكيف في الشدة عن مسؤولية تناول قضايا الضمير العام التي تهم المجتمع ووعدتُ بالعودة للكتابة عن هذا النوع من المسائل الحيوية عبر عدة مقالات. ووعدتُ أيضاً أن استهلها بموضوع التعليم عن بعد ما له وما عليه.
ومع أنني كنتُ أنوي الكتابة عن التعليم عن بعد لطلاب المراحل الأولى من التعليم النظامي بمجتمعنا السعودي في ظل الإجراءات الاحترازية لكوفيد 19 التي بدأت مارس 2020 من خلال مشاهداتي الخاصة وإطلاعي العام عن الموضوع إلا أنني بحكم تربيتي المنهجية كأكاديمية لم أستطع وإن كان الموضوع مقالاً في صحيفة يومية وليس بحثاً إلا أن أسبق الكتابة بقليل من القراءة المختصة في أدبيات «التعليم عن بعد» خاصة لجدة الواقع الموضوعي الذي جعل من التعليم عن بعد ظاهرة عالمية. وإذا كان قد هالني حجم الدراسات والبحوث التي كتبت عن التعليم عن بعد وزيادتها المطردة إبان هذه السنة في الكثير من الدوريات والمواقع المتخصصة والمهتمة بالموضوع من الجرنال الآسيوي للاسكندنافي ومن الأسترالي إلى القبرصي ومن المتوسطي للأمريكي والأوروبي، فإنني هنا سأقوم بتسجيل بعض النقاط التي عملت على استخلاص قبساً منها مما وجدتُ عينات واسعة منها في عدد من مواقع البحوث والمقالات الجادة بهذا الشأن الجلل إلى جانب بعض الاستخلاصات من الواقع الميداني للتعليم عن بعد في مجتمعات مصدر الثورة التكنولوجية والإلكترونية كأمريكا.
وقد قمتُ بصياغة هذه النقاط بالشكل الذي آمل أنه يعبر عن صلب أطروحة التعليم عن بعد بما لها وما عليها في اللحظة الراهنة:
1 - لم تكن فكرة التعليم عن بعد بنت كورونا بل كانت بنتُ الخيال العلمي خاصة والمعرفي والاجتماعي أيضاً فنجد أن البحوث والدراسات التنبؤية به والتنظيرية لمفاهيمه وآلياته والتصورية لتطبيقاته قد كتبت منذ الثمانينات ونشطت في التسعينات وأصبحت عملاً يعني الجامعات ومراكز البحث ومخازن الفكر ابتداء من الألفية الثالثة وعلى امتداد عقدها الأول والثاني، إلا أنه عملياً لم يدخل من باب المدارس إطلاقًا، بل دخل من بوابة أقسام الدراسات العليا بالمؤسسة الأكاديمية.
2 - على أنه وإن صارت مواقع ومطلات التعليم العالي عالميًا واقعًا معرفيًا معاشًا في الكثير من الجامعات حول العالم، وفيه سمحت بعض الجامعات بمنح درجات علمية ما بعد الدراسة الجامعية (أونلاين)، فإن ذلك لم يجيء كيفما اتفق لمجرد وجود الأوعية التقنية ومنصاتها (كالبلاكبورد الإلكتروني ) بل جاء بدراسات مستفيضة على مستوى التأطير النظري التحليلي لمعنى ومسؤوليات (التعليم عن بعد) مفاهيمه، مؤهلاته، شروطه، فعاليته ومصداقيته العلمية ومنها على سبيل المثال عمل فيراري Ferrari, A. (2012) Digital competence in practice : an Analysis of frameworks.
بالإضافة إلى علميات مستدامة من التدريب المكثف والتأهيل العملي على المستوى الميداني لطرفي التعليم/ الأستاذ/ الطالب الجامعي وكل الكوادر المساندة للعملية التعليمية.
3 - على الرغم من التقدم التكنولوجي المتسارع في المجتمعات المنتجة للتكنولوجيا فلم يكن توظيف جميع تقنياتها كجزء من العملية التعليمية في مدارس التعليم العام الحكومية والأهلية على حد سواء بنفس الإيقاع الذي شهده التعليم الجامعي وبرامج الدراسات العليا، بل إن ( التعليم عن بعد) على وجه التحديد لمختلف مراحل التعليم النظامي وخاصة الأولي منه لم يكن وارداً لا كسياسة تعليمية قائمة أو منشودة في المدى القريب ولا كتخطيط استراتيجي للمستقبل وإن كانت البحوث والدراسات قد اقترحت توطين تراكمي للتكنولوجيا لكافة المستويات في المدارس كما وجدت في الأجيال الصغيرة المولودة في أوج العصر الإلكتروني وتصاعده اليومي ما يرشحها لتسمى بأجيال (الأصل والمنشأ الديجتالي) (Native Digital).
غير أن ذلك لم يجعل إغلاق المدارس والتحول للتعليم عن بعد خياراً مطروحاً في الأوضاع الطبيعية للمجتمعات، بل المطروح هو التعامل مع التكنولوجيا وتوطينها بالمدارس كمكمل تعليمي وليس كبديل لمؤسسة المدرسة ولعلاقاتها التربوية.
4 - هناك تأكيد يومي في العالم المنتج للتكنولوجيا على أن (تعليم طلاب المدارس عن بعد لمراحله المختلفة وخاصة الأطفال الصغار) هو مجرد إجراء اضطراري وقائي (مؤقت) حماية لمجتمع المدرسة وللمجتمع ككل من جائحة وباء كورونا العالمي إلا أنه ليس بديلاً مطلوباً ولا مرغوباً على المدى الطويل ولا يمكن أن يشكل بديلاً مستداماً لحضور الطلاب والكوادر التعليمية والإدارية للمدارس. وهذا الموقف يجري تأكيده قولاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية وسواهما وعبر تعميم نتائج البحوث والدراسات المساندة لهذا الموقف، كما يجري تأكيده عملياً بالسماح للمدارس الأهلية الكبرى ذات البنى التحتية القادرة على توفير مساحات تحقق التباعد الاجتماعي وأخذ الاحتياطات الوقائية على استقبل الطلاب بتلك الشروط.كما تؤكده عملياً الإجراءات الاحتياطية المشددة التي اتخذت داخل المدارس الحكومية والاستعدادات الإضافية لتمكين طلاب كل فصل دراسي من الحضور عشرة أيام شهرياً. هذا مع أنه جرى تدريب كوادر التعليم والطلاب معا بدورات مكثفة للتعليم عن بعد من بداية الجائحة.
5 - على الرغم من البحوث والقراءات التحليلية التي ترى أن كوفيد19 قد سرع إدخال الأوعية والأدوات التكنولوجية لقلب المنهج المدرسي ولعموم العملية التعليمية، وهو في الحقيقة قد حولها (بالتعليم عن بعد) الذي فرضته الاحترازات الوقائية لمقاومة الوباء إلى واقع يومي معيش، فإن ليس ثمة من يقرأ أو يقرر أن (تعليم طلاب المدارس عن بعد) يعد إنجازاً لا على مستوى تقني بتوفر منصات طلابية إلكترونية لجميع المدارس بالمجتمع ولا على مستوى تربوي وتعليمي. ولهذا فهناك اهتمام متزايد بالأسئلة بحثًا وحوارًا وقراءات نقدية عن الآثار السلبية النفسية والاجتماعية والتربوية على نفسيات الطلاب وخصوصاً الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وكذلك على الكادر التعليمي، كما هناك قلق على المهارات الاجتماعية الفعلية التي يتعرض التلاميذ الصغار لفقدها مقابل اعتمادهم على التواصل الإلكتروني. هذا بجانب الخوف من تحول الأطفال إلى مخلوقات متوحدة جراء عزلتهم عن المجتمع المدرسي. مع الإشارة إلى الخسارات التعليمية والعلمية وليست الاجتماعية والتربوية وحسب التي قد يتعرض التلاميذ لها في كثير من المواد التعليمية التي تتطلب التفاعل وجها لوجه.
ولعلني في ختام المقال اقترح على صاحب القرار في مؤسسة التعليم النظامي العام بمدارسنا بالمملكة العربية السعودية أن يتفضل بأخذ هذه النقاط الجوهرية في الموقف العالمي من (التعليم عن بعد) بعين الاعتبار لإعادة النظر في الموقف التعليمي السعودي الذي اقتضى توخياً لسلامة المواطن الصحية تلاميذ وأساتذة.. إقفال أبواب المدارس الأهلية والحكومية معاً لعام دراسي كامل ونصف العام. فمع أن وزارة التعليم قد وفرت كل الوسائل التقنية الممكنة لتسيير وتيسير عملية (التعليم عن بعد) فلا أظن أن إشكاليات (التعليم عن بعد) عندنا تقل عن الإشكاليات التعليمية والتربوية والاجتماعية والنفسية المشار إليها في المجتمعات التكنولوجية نفسها.
وفي هذا أقدم مقترحين محددين:
الاقتراح الأول، إعادة استقبال طلاب المدارس بنات وبنين في كافة أنحاء المملكة بالمدارس الحكومية ولو بدوام أسبوعي جزئي كالمثال المشار إليه أعلاه مع تنظيم يضمن التباعد الاجتماعي وإجراءات الوقاية لريثما يعمم اللقاح ويرفع الله هذا الجائحة . وباستطاعة الوزارة، بل من واجبها توظيف إمكانات المدارس الأهلية الكبرى، وخاصة المدارس العالمية ذات الأقساط السنوية العالية والتي لم تتوقف ولم تخفض إبان الإغلاق الطويل، وتوجيهها لأداء دور تجريبي أول في استقبال الطلاب بشروط احترازية مشددة بما يتحملون فيه مسؤولية واجبهم التعليمي والتربوي مع الدولة في هذا الوقت العصيب الذي تواجه فيه هذه القوى الناعمة في مرحلة الطفولة وفي مرحلة الفتوة مصيراً موحشاً فيما لو استمر الاعتماد على (التعليم عن بعد) دون خرق محدوديته التعليمية وعزلته الاجتماعية ولو بحضور جزئي للمدارس مع أخذ الاحترازات الوقائية والمقاومة لهذا الوباء بإذن الله.
الاقتراح الثاني، هو تكليف، بالتزامن مع الاقتراح الأول، مراكز البحوث بالجامعات والباحثين المهتمين المستقلين وفي مؤسسات البحوث الأهلية من المختصين في مجال التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس والعلوم التقنية للقيام ببحوث ودراسات بشقيها النظري والحقلي وبروح نقدية. يكون الهدف من هذه البحوث والدراسات تقييم مرحلة (التعليم عن بعد) إبان الجائحة لجميع مراحل التعليم النظامي حكومي وأهلي بعينات موسعة من مختلف طلاب وطالبات مدارس البنات والبنين ومعلميهم في جميع مناطق المملكة. كما عليها أن تعنى باستشراف مستقبل التعليم النظامي ما بعد الجائحة لمعالجة القائم وما استجد من خلل تربوي أو تعليمي.
فلا شك عندي أن الانقطاع الطويل عن المدارس قد تنجم عنه حاجة فعلية لاستعادة لياقة ومهارة العودة للمدارس من قبل كل الأطراف المعنية التلميذ والمعلم والأسرة والوزارة.
وأخيرًا أنصح بمشاهدة الفلم القصير الجارح الذي أنتجته اليونسكو عن وحشة أطفال المدارس والأهالي والمعلمين في مهب الجائحة.