العقيد م. محمد بن فراج الشهري
ما يجري داخل الولايات المتحدة ليس ظاهرة داخلية منعزلة عن تأثير الوضع الدولي على الولايات المتحدة. لقد كان لتراجع الوضع الاقتصادي الأمريكي وظهور دول أخرى على ساحة التأثير في إدارة السياسات الدولية دوره المؤثر على الأوضاع في الداخل على المستويات كافة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ضمن ظاهرة الارتداد العكسي لحركة العولمة.
وواقع الحال أن الصراع القائم في الولايات المتحدة يجري تأثرًا بالتراجع الذي تعيشه الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة حتى الآن. ويمكن القول إن وصول الساسة إلى حكمها قد جرى بعدها على أساس بناء خطط تستهدف وقف هذا التراجع، وترامب لم يكن إلا المحاولة الثالثة، وبايدن هو المحاولة الرابعة. والأغلب أن العالم سيشهد عند نهاية ولايته ظهور تيار أشد انكفائية وأشد وطأة من حكم ترامب؛ إذ يأتي بايدن إلى الحكم والعالم قد تغير بمعدلات متسارعة على حساب القوة الأمريكية؛ ليس فقط بسبب سياسة ترامب، ولكن بفعل حركة تطور تاريخي لم تنجُ منه الإمبراطورية الأمريكية، التي تراجعت لمصلحة تصاعد قوة الأقطاب الدولية الأخرى الصاعدة.
لقد وصل جورج بوش الابن إلى الحكم على خلفية استشراف بتراجع الولايات المتحدة دوليًّا أمام تنامي أقطاب دولية أخرى، وكان تعبيرًا أوليًّا عن التغيير الحادث في قمة الحزب الجمهوري عما كان أرسي عليه منذ مدة طويلة؛ وهو ما عكس أزمة الحزب والدولة والمجتمع. أدار بوش الاستراتيجية الدولية للولايات المتحدة عبر استخدام القوة العسكرية باعتبارها أهم عناصر التفوق الأمريكي في ظل التوازنات الدولية القائمة وقتها.
وحاول عبر أعمال غزو أفغانستان والعراق واحتلالهما تأكيد وتثبيت حالة القطبية الواحدة للولايات المتحدة.
لكن محاولة جورج بوش الابن وفريقه أصيبت بالهزيمة؛ فقد قاوم العراقيون عبر المقاومة الوطنية، وقاوم الأفغان عبر تواصل واستمرار دور حركة طالبان، وأفقدت الحرب الولايات المتحدة القدرة على الاستمرار في الاحتلال منفردة من جراء إنهاك الجيش والاقتصاد معًا. كما أفقدتها بريقها الحضاري الذي كان عنوانًا مهمًّا من عناوين تقبل الشعوب والدول للدور الأمريكي. وكان مهمًّا كذلك أن وضعت مؤسسات الدولة الأمريكية في موضع الاتهام بعدما كذب قادة مؤسسات الدولة بشأن الأسباب التي روجوا لها خاصة عن غزو العراق واحتلاله، وبسبب الهزائم والضربات شديدة التأثير التي أصيبت بها قدرات الدولة الأمريكية تحت ضربات المقاومة العراقية والأفغانية. وكانت التقديرات الدولية قد أشارت بوضوح إلى أن الانغماس الأمريكي في تلك الحروب قد منح القوى الدولية الصاعدة (الصين وأوروبا وروسيا) فرصة الوقت لتحقيق مزيد من عوامل القوة والتطور على حساب الهيمنة والسيطرة الأمريكية دوليًّا.
ووصل باراك أوباما إلى الحكم، فأولى اهتمامًا كبيرًا لعملية ترميم سمعة الولايات المتحدة، ومارس دوره وفق اعتراف ضمني بتنامي قوة الدول الأخرى الصاعدة، ومبديًا قدرًا من الاستعداد للاعتراف بالتغيير في توازنات الوضع الدولي. أدار أوباما فترتيه في الرئاسة اللتين انتهتا عام 2016 وفق منطق ورؤية التعاون مع الدول الكبرى، وهو ما مثل طريقًا لإدارة تراجع الولايات المتحدة ضمن خطة لاستعادة دورها من بعد. كما اهتم أوباما بدور مجموعة العشرين ومجموعة دول الثمانية لتأكيد الطابع الدولي لإدارة العالم في اختلاف عن جورج بوش الذي اعتمد منهجًا انفراديًّا إلى درجة اتخاذ قرار الحرب والعدوان في ظل رفض من القوى الدولية حليفة الولايات المتحدة في حلف الناتو التي هي من تقوده.
غير أن مرحلة أوباما لم تحقق ما استهدفه؛ إذ واصلت الولايات المتحدة تراجعها، بينما واصلت القوى الدولية الصاعدة تطورها بالمقابل. وإذا كان جورج بوش قد انغمس في الحروب بما منح الصين وروسيا وأوروبا فرصة التطور والتقدم وتنامي معالم قوتها، فقد جاء أوباما ليتيح لها - وفق حسابات موضوعية - الفرصة للتمدد والقوة أيضًا.
وهكذا جاء الرئيس ترامب إلى الحكم وفق استراتيجية جديدة، يتحدث الكثيرون أن مهندسها هو نائبه مايك بنز.
سرع ترامب من فكرة انسحاب الولايات من إدارة العالم وفق منطق الهيمنة، وركز على القضايا المتماسة مباشرة مع المصالح الأمريكية، حتى لو ذهب الآخرون إلى الجحيم، ومع القضايا المرتبطة برؤى وأفكار البروتستانت والإنجيليين بشكل خاص.
رفع شعار أمريكا أولاً، فألغى مشاركة الولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية ليعيد الاعتماد على القدرات المنفردة للولايات المتحدة، وألغى توقيع أوباما على اتفاقية باريس للبيئة، ليطلق العنان مجددًا للصناعات الملوثة للبيئة؛ إذ أعاد الاعتبار وقدم الدعم لشركات إنتاج النفط الصخري، وسعى لإعادة الاستثمارات الأمريكية من الصين خاصة، وفعل الحمائية تجاه الصين وأوروبا، وسعى لإنهاء الحروب التي تورطت فيها الولايات المتحدة، وتحرك بشكل ضاغط لتحقيق هيمنة الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط على خلفيات عقائدية.
لقد استهدف ترامب إعادة بناء أمريكا وفق قواعد بنائها القديمة أو الأولى؛ حين كانت في وضع انكفائي على نفسها حتى الحرب العالمية الأولى ولم تكن تحارب إلا لتحقيق مصالحها المباشرة. وحاول إعادتها لسيرتها الأولى على صعيد البناء المجتمعي دولة للبيض بأغلبية للبروتستانت، ومعهم هذه المرة الإنجيليون.
وهو ما عمّق الصراع مع التيار العولمي، ووصل بالأمور حد الصراع المفتوح إلى الدرجة الجارية مشاهدها منذ الانتخابات، التي ستجري إعادة إنتاجها على نحو أعمق وأخطر وأشد تفاعلاً في المستقبل.
خاصة أن سياسة بايدن في مطلع أولوياتها لا تنبئ عن اختلاف كبير عن رؤية الرئيس أوباما الذي أشعل منطقة الشرق الأوسط، وتهاون وتهادن مع إيران، واحتضن الإخوان، ونشر الفوضى والخلاف في المنطقة.