لا شك بأن الفضول انتابك عن أي نوعٍ من الحدود أتحدث تحديدًا، حسنًا في البداية سأوضح مفهوم الحدود؛ الحدود هي العوائق أو الحواجز، هي كل ما يمنعك عن تحقيق شيءٍ ما، قد تكون مادية أو فكرية، وقد تكون إجبارًا بظروف خارجة عن الإرادة يحكمها طرفٌ متحكم، ربما شخصٌ بسلطة كبيرة عليك أم سلسلة أحداث لم تكن بحسبانك كالكوارث والفاجعات أو أي شيءٍ يجبرك على التوقف أو يقلِّل سرعة وحجم خطواتك، لكن ما سأتحدث عنه هنا تحديدًا هي الحواجز التي صنعتها أنت، مخاوفك العميقة من المغامرة وتجربة الجديد، رغبتك الجامحة في البقاء أمنًا وعدم المخاطرة البناءة، قبولك أن تعلق في المكان ذاته رعبًا من الفشل، قلة تقديرك لذاتك وتحطيمك المستمر، ممارستك لأسلوب حياة ثابت وهادئ وأنت تستطيع فعل الكثير ...
إن رغبتنا في البقاء بحالٍ ثابت أحد أكبر العوائق التي تمنعنا من التحرك وانجاز الكثير، تمتنع عن ممارستك لهواية جديدة لأنك لن تنجح من المرات الأولى، بل سيتطلب منك الكثير لتصل إلى نقطة رضاك الداخلي، نعم، أنت مرعوبٍ من أن يتم الحكم عليك بواسطتك ومرتهب من أن لا تحظى على رضا ذاتك، لذلك تختار المسار الأكثر أمانًا لأن ذاتك "الجلادة" ستوبخك ولن ترحمك أبدًا، تمتنع أيضًا عن إظهار اهتماماتك خوفًا من نظرة المجتمع الدونية وتهميشهم لك، تمتنع عن الاستقالة من عملك المرهق والمستنزف الذي لا تحبه خوفًا من أن لا تلاقي عملًا غيره، تستمر في علاقة سامة لأنك لن تجد بديلًا أو شخصًا آخر وتخاف أن تبقى وحيدًا، وتطول القائمة بالأشياء التي لا تعطي نفسك مجالاً لخوضها خوفًا من النتيجة، تعود لتحبس نفسك في دائرة محكمة كي لا تضطر للمواجهة، تحاصر نفسك مرتعبًا أن تخطئ ...
عليك أن تعلم يا عزيزي القارئ أنك لست مضطرًا على البقاء ثابتًا، وأن الأمان الذي خلقته بوقوفك بحد ذاته عائقٌ أكبر يعرقل خطاك، وماذا إن هزمت أو خسرت أو نُظر لك بنظرة استصغار؟ أو بقيت وحيدًا؟ كل شيءٍ مصيره الفناء، جرب أن تسأل عجوزًا عن أكبر ندم بحياته ستجده يتحدث عن كيف أنه لم يعش حياته كما يجب، وعن أنه كان يؤثر ويُقدم الآخرين عليه دومًا وعن كيف أنه لم يعط نفسه صلاحية المخاطرة، لمَ الهوس بالحفاظ على صورة مثالية؟ لا وجود للكمال ولا يصل ناجحٌ إلى نجاحه مباشرة دون أن يفشل، كثرة التأجيل والتسويف لن تقودك إلى شيءٍ أبدًا، بل ستقتل كل شغفك وطموحك المتبقي، لن تشبع رضاك الداخلي وأنت بنفس المطرح منذ البدء ولا ضر من المخاطرة والمغامرة عندما ترغب في ذلك، لا أدعو إلى المغامرة الطائشة، بل إلى المغامرة البناءة المدروسة، العمر سيمضي بكل الأحوال فهل تفضل أن تكون قصة حياتك جوفاء وعادية؟ أم مشبعة بالتجارب والرضا الداخلي؟ كيف ستشعر أنك تعتلي القمة إن لم تذق القاع يومًا؟ أبحث عن الإنجاز بنفسك، لا تنتظر قدوم الفرصة إليك، بل أصنعها من العدم، لن يأتي النجاح على طبقٍ من ذهب، بل ستتذوق الطين وتتضور جوعًا حتى تناله ...
موجعة حقيقة أن الشباب اليافعين يفعلون ذلك وهو هدرٌ كبير لإمكانياتهم وقدراتهم، لا أقصد أن الأوان قد فات لمن هم أكبر فالأوان لا يفوت ما دمت حيًا، لكن حقًا؛ إن لم يكن الشباب زمن التطور واكتشاف الذات فمتى سيأتي؟ ليس بالضرورة أن يكون نجاحك الأكبر مقرونًا بتقديرٍ أكاديمي ممتاز أم وظيفة يأتون في وقت محدد، ليس للنجاح زمنٌ واحد، فمع بزوغ الفجر كل يوم تخلق فرصٌ جديدة، وما عليك سوى البحث عنها ...
ليس التطور محتكرًا على جانب وطريق واحد، بل التطور متاحٌ على كافة الأصعدة ولا يتطلب سوى نفس شغوفة وصابرة تستمر بالمضي، فأنت عندها؛ ما زلت متوجهًا إلى هدفك الكبير الأساسي لكنك أضفت الكثير من الأهداف والإنجازات على طول الطريق لتزينه ولم تجعله مؤلمًا وممتعًا أكثر فقط، بل جعلتاه ذا معنًى أثمن أوسع وأشمل، قد تبدأ بالعديد من التجارب كالدخول إلى مجالٍ جديد لا تملك معرفة فيه أو ممارسة هواية جديدة لأول مرة وتحبط من الفوهة الشاهقة بينك وبين أفضل أداءٍ لك، تخيل أن تبدأ مبكرًا بكثيرٍ من الأفعال والنشاطات المختلفة أثناء مسيرك ماذا ستكون نتيجتها بعد فترة من الزمان؟ ستكون مذهلًا كونك جمعت بين الكثير من الأجناس المختلفة وتميزت بكل شطرٍ فيهم وستكسب الكثير من المميزات التي تفردك عن الآخرين، كما أنه سيكون لديك ما تفعله عندما تتعب أو يعتريك الملل من سياق حياتك، وستكون لديك العديد من "الحيوات" الأخرى بحياة واحدة، لا تتأثر بنظرة الآخرين لك أو بشبح المقارنات ولا تسمح لشيءٍ أن يسرق شغفك وحماسك أو أن يزعزع صورتك لذاتك، أبقى عظيم في عين نفسك ما حييت فالكل زائلٌ ولن يبقى معك أحدٌ سواك، عزّز ثقتك بذاتك وقدم لنفسك الكثير من البراهين على أنك تستطيع في كل مرةً تغزوك فكرة ضعفك وعدم تحملك، وتذكر القول المأثور "هي حياة واحدة تملكونها عيشوها كما تريدون لا كما يرضى بها الآخرون، تعلموا أن ترددوا دوماً وبكل قوة؛ هي سفينتي.. لن يقودها غيري وأنا وحدي ربانها".
** **
- رؤى العُمري