عمر إبراهيم الرشيد
من نافلة القول إن أمريكا لم تكن دولة عظمى حتى بدايات القرن العشرين، حتى استدرجها اليابانيون إلى أتون الحرب العالمية الثانية في النصف الأول من أربعينات ذلك القرن، فكان أن ألقت القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي فأبادت مئات الآلاف من السكان ومعهم مصادر الحياة من حيوانات وأشجار وبيئة، رداً على هجوم اليابانيين على مرفأ اللؤلؤ (بيرل هاربر). لقد كانت سياسة الولايات المتحدة قبل ذلك ومنذ إعلانها الاستقلال عن إنجلترا عام 1776، هي سياسة النأي بالنفس والاهتمام بتشييد البنية التحتية والصناعات والتعليم، ولقد كان لمؤسسيها ما أرادوا بالفعل نتيجة وحدة الهدف والتصميم على تجنب ما عانوا منه في أوطانهم الأصلية (إنجلترا، ايرلندا وأوروبا عموما)، من احترابات واضطهاد وتناحر على الموارد والفرص. وكما قلت في مقالات سابقة لولا مالطخ تاريخ تأسيس هذه الولايات منذ بدء الهجرات إلى ذلك العالم الجديد، وهو تجارة الرقيق واضطهاد الأفارقة لكان لهذا التاريخ الأفضلية على باقي الأمم في العصر الحديث. وهناك مقولة تتردد بين بعضنا بأن العرب سبقوا الأمريكيين في تجارة الرقيق وهذا حق، ولكن لا يقارن تعامل العرب في وقت تجارة الرقيق قديماً بتعامل الأمريكيين مع الأفارقة الذين تم أسرهم من إفريقيا، من أجل الزراعة والبناء والتشييد. فالقتل لم يكن متبعاً لدى العرب بحق عبيدهم كما هو لدى الأمريكيين كعقاب للفارين مثلاً، بل إن العتق كان مكافأة لبعضهم لقاء عمل محمود كالقتال مع القبيلة والفروسية والكرم وغير ذلك، كما قال شداد بن أوس لعنترة (كرً وأنت حر).
كان هذا استطراداً لا مناص منه لأنه جزء من التاريخ الأمريكي، ومقدمة لأقول ومن وجهة نظر شخصية بأن ملامح ذلك الانكفاء على الداخل قد بدأت تعود، ولعل انسحاب أمريكا من منطقة الشرق الأوسط، على الأقل عسكرياً لا سياسياً، هو بداية الانكفاء. وهناك عوامل داخلية مؤثرة لانكفاء هذه القوة العالمية العظمى، أولها العامل الاقتصادي فهي أكبر دولة مدينة في العالم (ديون داخلية) حيث وصل الدين العام إلى أكثر من 27 تريليون دولار. ثانيها مخاوف انفصال بعض الولايات الغنية بدعوى غناها الاقتصادي مقارنة بباقي الولايات، فكأن الولايات الغنية تتحمل هذا العبء أكثر من الولايات محدودة الدخل.
والعامل الثالث تنامي الميليشيات مما ينذر بانفجارها يوما ما في وجه الحكومة الفيدرالية، وهي التي لها فكر ثوري وعنصري ولها إسهامات في الأحداث العنصرية منذ خمسينات القرن العشرين والكوكلاس كلان مثال معروف. ولعل من العوامل الرئيسية في نظري، تراجع الشخصيات القيادية على المستوى السياسي، فتبوء رجل أعمال مثل دونالد ترمب منصب الرئاسة لم يكن ليحدث في القرن العشرين اطلاقاً، لتوفر ذلك البلد على قيادات سياسية وعسكرية كبيرة حينها، لديها الخبرة والحنكة السياسية والعسكرية اللازمة لإدارة دولة بهذا الحجم والفرص والتحديات.
أما العوامل الخارجية لذلك الانكفاء المحتمل، فأولها المارد الصيني وتمدده إلى سائر أنحاء العالم وبصمت وعمل دؤوب لا يعرف الكلل، مما قربها لتحتل المرتبة الأولى كأكبر اقتصاد في العالم خلال السنتين المقبلتين. ودون شك فان ألمانيا كأكبر اقتصاد في أوروبا، اليابان، وروسيا العائدة إلى قوتها عسكريًا وسياسيًا، وباقي الدول الصناعية والنامية الناهضة، كل هذه تبحث لها عن موطء قدم في دول الفرص والموارد كمنطقتنا على سبيل المثال لتقوى وتصل إلى مرحلة الاستقلال الاقتصادي والعسكري التام. فهل تؤدي بالفعل هذه العوامل الداخلية والخارجية إلى تراجع أمريكا وانكفائها إلى ذاتها كما حدث مع بريطانيا خلال القرن العشرين، هذا ما يلوح في الأفق والله تعالى أعلم، إلى اللقاء.