د.شريف بن محمد الأتربي
على مدى عهود مضت كانت السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية واضحة وصريحة، وتأخذ اتجاهًا محددًا مهما كان القائمون على الحكم من الديمقراطيين أو الجمهوريين. ومنذ عهد أوباما بدأت السياسة الخارجية الأمريكية تتأثر بالتقلبات المناخية السياسية التي لا تتفق مع طبيعة هذه الفترة من السنة.
ولعل أبرز ما تأثر بالتقلبات المناخية السياسية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية هي علاقتها مع إيران، ووجهة نظرها نحو الحوثيين في اليمن. وهذه بالتحديد هي أهم ما يشغل بال العالم العربي حاليًا، خاصة مع ما تسببه هذه الأطراف من مشكلات في العالم العربي كله بشكل خاص، والعالم أجمع بشكل عام.
وبالنظر إلى العلاقات الأمريكية - الإيرانية نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت دائمًا وأبدًا محورًا للأحداث التي تجري في إيران، بل من المفارقة أيضًا أن إيران لعبت دورًا مهمًّا ومؤثرًا أكثر من مرة في تغيير اللاعبين الأساسيين للسياسة الخارجية الأمريكية، بل تغيير الحكام أيضًا.
فمن ينسى دور المخابرات الأمريكية في إسقاط حكومة مصدق عام 1953، والتدخل في الحرب العراقية - الإيرانية لصالح بغداد، وغيرها من المواقف الأخرى؟ وعلى الطرف الآخر، فقد كانت إيران اللاعب الأساسي في تغيير الحكام في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال موقفين من أشهر المواقف التي ضربت البيت الأبيض، وعصفت بمن كانوا فيه؛ فقد كانت واقعة احتجاز الرهائن الأمريكيين سببًا في إنهاء حكم الرئيس كارتر. وكذلك تسببها بفضيحة للرئيس ريجان بسبب ضلوعه وإدارته في صفقة سلاح مع إيران، التي عُرفت بفضيحة إيران كونترا.
والمتتبع لحال السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترتَي حكم أوباما، وفترة حكم ترامب، سيجد التقلبات المناخية السياسية واضحة وضوح الشمس؛ فأوباما قام بإلغاء الاتفاق النووي الذي عُقد عام 2015، كما ألغى نظام العقوبات الذي فرضته الأمم المتحدة، الذي لعب دورًا مهمًّا في انهيار الاقتصاد الإيراني خلال فترة تطبيقه، في مقابل فرض قيود عدة مؤقتة على المنشآت الرئيسة التابعة لبرنامج التسليح النووي الإيراني، وأخذ تعهدات غير واضحة تمامًا من الإيرانيين بشأن عدم تطوير أسلحتها النووية مطلقًا.
أما ترامب فقد أعادت إدارته العقوبات الأممية الملغاة من قِبل سلفه أوباما حسب الاتفاق النووي ضد إيران، وأوضحت أنها باتت سارية المفعول مجددًا، بل هددت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بعقوبات في حال ارتكاب خروقات لهذه العقوبات.
والآن، وفي عهد بايدن، لم نعد نعرف ما هي التوجهات الأمريكية نحو إيران؛ هل ستعود إلى سابق عهدها القريب أم سيسير بايدن على خطى أوباما؟ فما نراه الآن ونسمعه هو مجرد ضجيج لا يردع إيران، ولا يؤثر فيها؛ فهي ماضية في مخططاتها المقلقة لجيرانها وللخليج العربي كله دون أن تلتفت مجرد التفات للحكومة الأمريكية الجديدة، ولا حتى للعالم بأسره، خاصة أوروبا التي بدأت تتفكك وحدتها مرة أخرى، خاصة بعد خروج إنجلترا من الاتحاد الأوروبي.
أما اليمن فالعلاقات بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية شهدت مراحل عدة بين الاتفاق والاختلاف بين الود والجفاء، بدءًا من الاعتراف الأمريكي بالجمهورية العربية اليمنية، وتجاهل الحكم الملكي الذي كانت إنجلترا (حليف أمريكا المميز أوروبيًّا) تراه داعمًا لها في عدن. ومع الوقت كانت الحكومة الأمريكية ترى في حكم علي عبد الله صالح نموذجًا للتحول الديمقراطي في المنطقة، يجب العمل على نشره، ولكن مع أول خلاف في أثناء أزمة غزو العراق للكويت، ورفض اليمن استخدام القوة ضد صدام حسين؛ قامت الولايات المتحدة الأمريكية بقطع مساعداتها المادية والعسكرية لها مما ترتب عليه تدهور الأوضاع الداخلية، ومحاولة الانفصال عام 1994 التي رفضتها الإدارة الأمريكية تمامًا.
ومن أبرز المواقف التي أعجبت فيها الإدارة الأمريكية بالحكومة اليمنية ما حدث خلال أزمة 1995م، حين أقدمت دولة إريتريا على احتلال أرخبيل حنيش جنوب البحر الأحمر، ونجحت الدبلوماسية اليمنية في حل النزاع سلميًّا، ولجأت إلى التحكيم الدولي. وأعربت الإدارة الأمريكية عن إعجابها الشديد بذلك، ودخلت العلاقات اليمنية - الأمريكية مرحلة جديدة من التطور والنماء.
وتأتي حادثة تفجير المدمرة الأمريكية «يو إس إس كول» في ميناء عدن في أكتوبر من عام 2000م بسبب انفجار زورق مطاطي، يحمل شحنة ناسفة، أسفر عن سقوط 17 أمريكيًّا، وإصابة 38 آخرين بجروح. وقد حدث الهجوم في الوقت الذي كانت فيه المدمرة «كول» تتزود بالوقود من ميناء عدن قبيل توجهها إلى الخليج. وتأتي هذه الحادثة لتعيد التوتر مرة أخرى للعلاقات اليمنية - الأمريكية. التي ما لبثت أن عادت إلى سيرتها الأولى بعد التعاون الواضح من قِبل الحكومة اليمنية مع السلطات الأمريكية إبان أحداث 11 سبتمبر 2001.
وكانت النهاية حين قامت احتجاجات عام 2011 (ثورة الشباب اليمنية) ضد حكم الرئيس علي عبد الله صالح؛ إذ سلم صالح السلطة بعد سنة كاملة من الاحتجاجات بموجب «المبادرة الخليجية» الموقَّعة بين حزب المؤتمر الشعبي العام وأحزاب اللقاء المشترك، التي أقرت ضمن بنودها تسليم صالح السلطة بعد إجراء انتخابات عامة، كما أقرت لصالح حصانة من الملاحقة القانونية، وتم إقرار قانون الحصانة في مجلس النواب اليمني، واعتباره قانونًا سياديًّا، لا يجوز الطعن فيه. وتولى نائبه آنذاك عبد ربه منصور هادي رئاسة المرحلة الانتقالية. ورغم هذه النهاية إلا أن صالح استغل هذه الحصانة في وصول الحوثيين المنتمين كليًّا إلى إيران إلى الحكم.
ونتيجة لذلك أصدرت لجنة العقوبات الأممية بيانًا في 7 نوفمبر 2014 بشأن التنسيق بين علي عبد الله صالح والحوثيين؛ إذ فرض «مجلس الأمن الدولي» التابع للأمم المتحدة عقوبات على الرئيس السابق علي عبد الله صالح واثنين من كبار القادة العسكريين للحوثيين، هما عبد الخالق الحوثي (أخ شقيق لعبد الملك الحوثي)، وعبد الله يحيى الحكيم المعروف بـ(أبو علي الحاكم)؛ لاتهامهم بتهديد السلام والاستقرار في اليمن. وقامت الولايات المتحدة بإجراءات مماثلة.
ومنذ قدوم الرئيس الأمريكي السابق ترامب إلى الحكم عام 2017 لم تتم أي مفاوضات مباشرة إلى أن أعلن مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشرق الأدنى ديفيد شينكر خلال زيارة للسعودية (5 سبتمبر 2019) أن واشنطن تجري محادثات مع جماعة الحوثيين بهدف إيجاد حل «مقبول لإنهاء النزاع في اليمن بين تحالف دعم الشرعية بقيادة المملكة العربية السعودية، وجماعة الحوثيين المنتمية كليًّا لإيران».
ومع قدوم بايدن للحكم باتت التقلبات المناخية أكثر وضوحًا في السياسات الأمريكية؛ إذ بات شجب الاعتداءات الحوثية على المملكة هو الخيار الدائم لهذه الحكومة الجديدة، والقول بأنها تقف جنبًا إلى جنب مع المملكة ضد أي اعتداء عليها. وفي المقابل يتم شطب جماعة الحوثيين من قائمة الإرهاب، واعتبارها جماعة معارضة.