عبدالرحمن الحبيب
من النادر في الذاكرة الحديثة وجود هذا المقدار من عدم اليقين حول مستقبل النظام العالمي. وذلك ليس فقط بسبب جائحة كورونا وما ألحقته من ضرر في إبطاء النشاط الاقتصادي وتأثيرها الغامض والمزدوج على العولمة؛ بل أيضاً تأثيرات الموجة الشعبوية والسياسات الاقتصادية الحمائية والانعزالية.. فما السيناريوهات المحتملة التي سينبني عليها النظام العالمي المرتقب؟ وإلى أي درجة أثرت فيه جائحة كورونا؟ هل ستستمر العولمة في التقدم أم تتراجع أم أنها بلغت ذروتها؟
تناول المقال السابق فرضية الباحثة جيسيكا فان دير شالك بأن العولمة على الأرجح لن تتقدم أو تتراجع بل إنها وصلت إلى حدها الطبيعي وبلغت ذروتها، فمن غير المرجح أن تصبح تدفقات رأس المال أكثر عولمة، بالنظر إلى التنظيم الذي تم تنفيذه بعد الأزمة المالية لزيادة الاستقرار في النظام المالي العالمي.. وإذا كانت الرقمنة تعزز التجارة الدولية في الخدمات، فإن أغلب قطاعات الخدمات غير متأثرة بذلك، لأنها بطبيعتها محلية، فعلى سبيل المثال، لا يمكن إجراء قصة الشعر إلا عند الحلاق المحلي، وقس على ذلك الرعاية الصحية أو تقديم طلبات الطعام وما شابهها من احتياجات محلية.
فهل أثر كورونا سلباً على العولمة بإعاقته حرية التنقل والتواصل حول العالم؟ يرى إيان بريمير (مجلة تايم) أن كورونا عامل مهم «في طريق إنهاء المرحلة الأولى من العولمة». وفي السياق ذاته يرى المفكر الاقتصادي فيلب لغرين أنه من المحتمل أن ينهي كورونا العولمة التي نعرفها؛ مشخصاً ثلاثة مخاطر تواجه العولمة الاقتصادية والتكامل الدولي، هي: خطورة الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية المتشابكة، حظر السفر، الحمائية والقيود على التصدير.. كلها تجعل الاقتصادات منغلقة وطنياً ومعها تكون السياسة أكثر انغلاقًا، إذ توافر مبرر سياسي للقوميين الذين يفضلون المزيد من الحمائية وضوابط الهجرة. ذلك يمكنه تشكيل نقطة تحول تدفع العديد من الشركات إلى إعادة تصميم سلاسل التوريد الخاصة بها والاستثمار في أنماط إنتاج أكثر محلية، مما قد يوجه ضربة لسلسلة التوريد الدولية، وتقلل من سفر رجال الأعمال العالميين.
ولعل الأهم - حسب لغرين - أن أزمة كورونا تدعم القوميين والشعبويين الذين يفضلون ضوابط أكبر للهجرة والحمائية بوضع قيود على دخول البلاد والتجارة؛ فهذه الأزمة كشفت أيضًا ضجيج تأكيدات القوميين بأن سياساتهم الحمائية والمناهضة للهجرة تجعل الناس أكثر أمانًا، وتزيد من التصورات بأن الأجانب يشكلون تهديدًا.. والنتيجة لذلك، تمهد أزمة كورونا للدخول إلى عالم أقل عولمة. بروفيسور التسويق بجامعة نيويورك سكوت جالوي أصدر كتاباً عن تأثير كورونا، طارحاً فرضيتين رئيسيتين: الأولى هي أن أقوى تأثير للوباء هو تسريع الحاصل، مثل العمل والتعلم والطب عن بعد، وهيمنة شركات التكنولوجيا، وزوال الأعمال التجارية التي بدون نموذج قابل للتطبيق بالمستقبل.. إذ يرى المؤلف أن الوباء لم يكن عامل تغيير بقدر ما كان عاملاً مسرعاً للاتجاهات الجارية بالفعل وتسريع اتجاهات أعمق في الحكومة والمجتمع. الأطروحة الثانية أنه في كل أزمة هناك حالة اضطراب من فرص وآثار مدمرة، فسيصمد البعض للفوز وسيخسر البعض.. سيزدهر البعض، مثل الشركات الاحتكارية التكنولوجية القوية؛ بينما ستكافح المؤسسات الأخرى، مثل التعليم العالي، للحفاظ على قيمة أسعارها التي لم تعد منطقية عندما لم نعد نحضر مباشرة وجهاً لوجه.
بالانتقال إلى السيناريوهات التي سينبني عليها النظام العالمي المرتقب، كتب البروفيسور الروسي ديميتري ايفستافيف (المدرسة العليا للاقتصاد)، أن العالم يدخل حقبة يمكن أن يطلق عليها «جيواقتصاد القوة». أصبحت المرحلة الحالية من التطور العالمي مرحلة انتقالية إلى «تعدد أقطاب ائتلافي»، وهو البديل الأكثر احتمالا لظهور تعدد أقطاب عملي. إننا نشهد التصفية النهائية لـ»قواعد اللعبة» وتحول المؤسسات العالمية، السياسية والاقتصادية، إلى مؤسسات وهمية (روسيا اليوم).
يختزل ايفستافيف الأشكال الجديدة للتحولات على مستوى البلدان والمناطق إلى ثلاثة خيارات رئيسية. الأول، محاولة «دحرجة» الوضع إلى ما كان عليه في العامين 2015 - 2016، لكن يبدو أن هذا السيناريو هو الأقل احتمالا، على الأقل بسبب الحاجة إلى إنفاق موارد باهظة عليه. لكن مثل هذا البرنامج بالتحديد هو الذي أعلنته إدارة جو بايدن. وهذا البرنامج، هو الذي سيشكل أساس «الأطلسية الجديدة».
الخيار الثاني، استخدام الإمكانات المتبقية لأحادية القطب الأمريكية لإبطال محاولات مراكز القوة الجديدة تشكيل «مناطق نفوذ» خاصة بها. وهو يفترض نقل النفوذ الاقتصادي إلى أيدي الشركات العابرة للقوميات. ثم نزع السيادة السياسية، وفق إحدى السيناريوهات المجربة، في أواسط العقد الأول من هذا القرن (في اوكرانيا، وفنزويلا، والعراق). أما الخيار الأخير فهو تشكيل «مناطق نفوذ» إقليمية حول مراكز قوة جديدة. على أساسها، يمكن تشكيل مناطق جيواقتصادية كاملة المعنى، مثلما يحصل في مناطق أوراسيا حيث تحاول بعض الدول مد نفوذها على أوسع نطاق ممكن.
يبدو الاحتمال الأرجح هو ظهور مرحلة جديدة من العولمة لكن ليس نهايتها، فالعالم متداخل، ولا يبدو أن العودة للقوقعة الحدودية ممكن إلا مؤقتًا، فقد تمت بالفعل خطوات رئيسية لدمج سياسات البلدان والمؤسسات الدولية (السياسية والتجارية والصحية والغذائية والزراعية والبيئية..الخ)، ودمج الاقتصادات الوطنية في الاقتصاد العالمي.. فتكاليف إلغاء العولمة باهظة وأقرب للمستحيلة.