تركي بن رشود الشثري
العمق في التفكير ملكة خاصة يتمتع بها الكبار، ولا يخفى ما للأفكار من الأثر البالغ على جميع الممارسات الحياتية، فمن الأفكار تنطلق جميع المشاريع الكبرى منها والصغرى.
لدينا الكثير من الأفكار، ويوجد من يفكر ويسكُّ المصطلحات، ويُنتج النظريات وكل ذلك باقتدار، ولكن للأسف أن الهوة بين التفكير والواقع بعيدة الغور، وعليه فليغتنم كل مفكر الفرصة السانحة، فالناس بحاجة ماسة للأفكار العظيمة والتي لا تبتعد كثيراً عن واقعهم بل تساعدهم على شق طريقهم في هذه الحياة المعقدة بقوة واتزان، وكذلك الفرصة سانحة لأن الجمهور جاهز وعلى أهبة الاستعداد والوسائل ميسرة والبث مباشر، ولا يكون ذلك إلا بالتوازن بين الأفكار والواقع، فالناس لا يرفضون الأفكار العظيمة، ولا يرفضون المثقفين كما يردد كثير ممن يشعرون بالاغتراب الثقافي، فالخطأ من المثقفين أنفسهم لأنهم دائماً ما يغردون خارج سرب الحياة المعاصرة واليوميات العفوية للناس، كذلك الفرصة سانحة لمن يملك المعلومات الكثيرة كي ينظمها ويستخرج أنفع ما فيها ويطَّرح الزغل (ما لا فائدة فيه) فليس كل ما يُعرف يقال وليس كل ما يقال حقيقة، فالمعلومات مبذولة وهي تنتظر على قارعة الطريق والذي يصنع الفارق اليوم هو من يحسن تنظيم المعلومات ويستطيع التوازن في تقدير كثرة المعلومات حول الموضوع محل الدراسة وبين تنقيح هذه المعلومات، فالناس لا تريد معلومات كثيرة جداً بل تريد ما ينفعها، وأبسط مثال على ذلك وإن كان لا يؤدي كل ما في النفس عن هذا المعنى ذلك المحاضر الذي يريد أن يقول للحضور كل شيء يعرفه عن موضوع محاضرته بدءًا بالتعريفات والمداخل وانتهاء بجميع ما يحضره وما لا يحضره من توصيات حيث يظل يُهوِّل ويعاني كي يقنع من أمامه بضرورة الإقدام أو الإحجام عن أمر ما، مع أن التركيز على نواصي الموضوع وأصول مبناه مع شيء من التوضيح والأمثلة الواقعية الآسرة يعطي للقول إشعاعاً ثقافياً راقياً يداخل مسامات التفكير لدى المستمعين وفي هذا الكفاية والغناء، مع استحضار ضعف التركيز لدى الناس وسرعة تشتتهم واعتيادهم السنابات الصغيرة والتغريدات القصيرة والمقاطع الخاطفة مع التوازن في ذلك.
ولكن تذكر أنه لا يمكن بحال أن تستمر في الإغراق العاطفي أو الغلو العقلاني من خلال اطروحاتك من دون أن ينطبع ذلك في أذهان المتلقين أو المحاورين لك، فالناس ينظرون للشخصية العاطفية بأنها مندفعة أو رقيقة أو في حالة انفعال دائم فلا يرجون من صاحبها زنة الأمور بالميزان الصحيح، وكذلك الشخصية العقلانية الجافة لا يُرتجى منها حضن أو تسامح أو هامش للتعاطي الحساس والحل هو: التوازن واستخدام كلاً من العقل والعاطفة بنسب منطقية مع كل حدث وموقف بما يناسبه فالعاطفة دافعة ومصدر إلهام والعقل موجه وضابط للحركة فبلا دوافع لا يمكن التحرك وبلا توجيه يحصل الارتطام والسقوط في الحفر.