الهادي التليلي
«إن حركتنا التاريخية والوطنية والجميلة في جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى قد بدأت للتو» هذا ما صرح به الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب عقب تبرئته وعدم إدانته على التورط في حادثة اقتحام الكونغرس خلال شهر يناير المنقضي من قبل مؤيديه بعد خسارته في الاستحقاق الانتخابي الذي تم خلال نوفمبر 2020 .
عدم الإدانة من قبل مجلس الشيوخ الأمريكي حصل بعدم تحقق ثلثي النصاب أي 67 صوتاً من أصل 100 ، حيث حقق المؤيدون للإدانة 57 صوتاً فقط وكانوا يحتاجون إلى عشرة أصوات أخرى وحتى تصويت سبعة أصوات جمهوريين لصالح الإدانة لم يكن كافياً لعزل الرئيس ترامب حتى بعد نهاية ولايته.. نقول عزل لأن رفع شأن التقاضي كان حين كان ترامب على سدة رئاسة أمريكا وبدهاء من ماكونيل وصمت صائت من جميع الأطراف تم تمرير المحاكمة إلى ما بعد نهاية ولاية ترامب ومغادرته البيت الأبيض أي بعد 20يناير 2021 .
هذه المحاكمة الرابعة لرئيس في تاريخ أمريكا والثانية في التاريخ الشخصي لدونالد ترامب حيث قبله وتحديداً في 1868 عين إدفين ستانتون وزير حرب بعد عزل آخر دون الرجوع لمجلس الشيوخ وهو ما رأى فيه النواب تجاوزاً ومساً من هيبة السلطة التشريعية الأولى ولكن لم يتحقق النصاب فكانت المحاولة الأولى لعزل رئيس أمريكي قائم فاشلة ولكنها سجلت في التاريخ.
والمحاولة الثانية كانت سنة 1974 مع ريتشارد نيكسون عقب فضيحة ووترغيت وقضية التجسس على الناخبين في تلك المدينة والتي شغلت العالم وقطع إجراءات العزل ساعتها نيكسون بتقديمه الاستقالة وضمن العفو بعد ذلك من سلفه فورد.
أما المحاولة الثالثة فكانت في 1948 مع بيل كلينتون على إثر فضيحة التحرش بلوينسكي وكانت حجة النواب ساعتها الحنث باليمين زيادة على تهمة تعطيل العدالة وبفضل استماتة الديمقراطيين للذود عنه استطاع النجاة من الإدانة.
أما المرة الرابعة فكانت مع دونالد ترامب في علاقة بالضغط على رئيس أوكرانيا لتثبيت تهم فساد على خصمه جو بايدن وابنه ولم تستطع أن تسقط ترامب بالرغم من جهود الديمقراطيين بسبب الموقف القوي للجمهوريين بالمجلس ساعتها.
لتكون المحاكمة الأخيرة والطريفة والتي كانت أقصر محاكمة من نظيراتها السابقة حيث لم تدم أكثر من خمسة أيام بعد تكثيف في الإجراءات إذ لم يتم الاستماع إلى الشهود وتم الاكتفاء بالشهادات المكتوبة وهنا يستعيد الصمت الديمقراطي الصائت حضوره والذي كان سيمكن الديمقراطيين الذين يرون في سماع الشهود علناً أمام كل العالم لحظة تاريخية للتشفي من ترامب والتشهير به والحط من حظوظه في إعادة الترشح والفوز في 2024 حتى لو أسعف بعدم الإدانة.
وهنا تطرح عديد الأسئلة حول السطوح المتعددة لفهم مشهد المحاكمة التي عبر عنها محامي ترامب فان دبرفين بكونها مسرحية وصورية وغير مستندة إلى مرجعية قانونية معتبراً إياها تدخلاً في سياق الكره الأعمى الذي يكنه جيش النواب الديمقراطي لدونالد ترامب في حين صرح جو بايدن بكونها لحظة حزينة تؤكد بأن الديمقراطية كيان هش ولابد من حمايتها..
في الحقيقة المحاكمة التي يراها المحامي فان دبرفين صورية أريد لها أن تكون صورية بسرسبة ملفها إلى ما بعد خروج ترامب من الرئاسة ولم تكن الكتيبة الديمقراطية في المجلس تمانع في ذلك والسبب أن الديمقراطيين حرصوا على أن تمر إجراءات تسلمهم للرئاسة سلسة وبلا مشاكل عقب وصول إشارات ومعلومات عن خطر ممكن وهو ما فسره انتشار عدد مهم من الأمنيين بالمكان فكان تمرير عقد المحاكمة من جميع الأطراف لمصلحة الجميع، فالمعسكر الجمهوري صار مهدداً بالتشقق خاصة بعد ما حصل لبنس من تهديد وتعرض أمنه وسلامته للخطر من جراء هذه الأحداث وهو القيادي البارز في الحزب الجمهوري مما جعل من مسألة تعطيل تسلم السلطة إشاعات ومعلومات غير دقيقة والحرص على إنهاء ملف الاقتحام مسألة جوهرية بالنسبة للحزب قبل أن يكون من صالح ترامب فكان الضغط على القواعد حتى تمر الأمور على ما يرام في موضوع تسلم بايدن للسلطة وهو ما رآه الكثيرون.
كما أن تمرير المحاكمة لما بعد تسلم بايدن للسلطة تعد رسالة طمأنة لترامب وبالتالي كانت هناك مصالحة مشتركة في إخراج محاكمة ترامب من المركز إلى الهامش لأن الحزب الجمهوري كان الخاسر الأكبر من حادثة الكونغرس لذلك مرر سبعة أصوات للإدانة كرسالة للعالم وللمجتمع الأمريكي بأن الجمهوريين ليسوا مع ما حدث ولكن صوتوا لترامب لمصلحة الحزب وهي شفرات سياسية عميقة لا يلتقطها إلا من وجهت له وتدخل في السطح الأعمق من الخطاب وهو ما رأى فيه الكثيرون سطحياً ظاهرة خطيرة تشي ببداية تشقق الحزب الديمقراطي وهو ما لا نراه وحتى عدد الأصوات 57 من 67 مفترضة وعدد الأصوات الجمهورية 7 المدينة لترامب أرى أنه شفرة من الحزب الجمهوري بكونه متحكم بخيوط اللعبة خلال المحاكمة.
ومن جهة أخرى نرى أن الحزب الديمقراطي من صالحه عدم إدانة ترامب ويعلم أنه لن يدان حتى بعدم منحه أي صوت ضد الإدانة فسعى للاصطفاف باتجاه الإدانة إرضاء للقواعد والرأي العام الأمريكي ولصورته الذهنية ولكن في الحقيقة كان مساهماً في تبرئة ترامب أولاً بالصمت على التأجيل إلى ما بعد الخروج من الرئاسة وثانياً عدم الممانعة في إلغاء السماع للشهادات الحية والاكتفاء بالشهادات المكتوبة لأنهم لا يريدون قلاقل في بداية ولايتهم ويحتاجون إلى هدنة مع الجمهوريين لتنفيذ برامجهم وهذا يترجم العقل الأمريكي المبهر في هذا الجانب والذي يقدم المصلحة الحزبية على أي شيء آخر، فمن مصلحة الديمقراطيين النجاح والحزب الجمهوري مكون أساسي يكاد يكون نصف المجتمع الانتخابي لذلك تلقط ترامب الرسالة بعد المحاكمة التي أعطته دافعاً قوياً للبدء بالتأسيس لأمريكا «التاريخية» و»الجميلة» والتنصيص على الجميلة أي كونها بلا عنف وبالتالي سيبدأ مشواره الانتخابي للدورة القادمة وهو يطوي صفحة المحاكمة بالرغم من إشارات بعض الديمقراطيين مثل الذين يرون بأنه في حال عدم الامتثال للواقع فهناك نظام عدالة جنائية ودعاوي مدنية، الرؤساء السابقون ليسوا في مأمن منه ومن ثمة فالمحاكمة كانت لإرضاء الرأي العام والمحافظة على صورة الديمقراطية البراقة التي تعلو ولا يعلى عليها وهو ما أريد لها، كما كانت فرصة لإظهار ترامب بصورة البريء الذي يحق له تمثيل حزبه في الانتخابات المقبلة وهو الذي خرج من النشاط الرئاسي إلى الانخراط المجتمعي في المشهد السياسي مخبئاً عديد المفاجآت عبر عنها بقوله «ستكون لنا لقاءات خلال الأشهر القليلة القادمة»، فبحكمة الحزب الديمقراطي وببصيرة الحزب الجمهوري طويت صفحة قاتمة من تاريخ أمريكا.