حمّاد بن حامد السالمي
* إنها الطائف المأنوس والمأمون.. أعرف؛ أن من يعرفني؛ يعذرني في حبها.. فلا يعتب عليّ، ولا يلومني في عشقها، فأنا على ما قال الشاعر- ببعض تصرف:
لها في فُؤادي مَنزِلٌ مُترفِّعٌ
عَلى العَتبِ، لَم تَحلُلهُ سُعدى ولا عَتبُ
فلَمّا سَكَنَت القَلبَ؛ لم يَبقَ مَوضِعٌ
بِجِسمِيَ إِلّا ودَّ لَو أَنَّه قَلبُ
* أما وصف الطائف بالمأنوس والمأمون؛ فهذان وصفان تاريخيّان قديمان، وردا عند المؤرخين والأدباء القدامى، ومنهم: (ابن فهد، والميورقي)، من أعيان القرن الحادي عشر الهجري. ذلك أن المأنوس من الأنس.. الأنس بجوّها وفنّها ومجتمعها، واليُمن بخيراتها الوفيرة، من الفواكه والمنتجات التي كانت وما زالت بها تشتهر.
* أمّا أنِّي قلت: (الطائف في الإعلام)؛ ولم أقل: (الإعلام في الطائف)، فذلك راجع إلى رغبتي في المزيد من الإفصاح والإيضاح أكثر ممّا قلت في الندوة التي افتتحت بها (جمعية الإعلاميين السعوديين) فرعها بالطائف قبل عدة أسابيع. تكلمت في الندوة التي استُضِفت فيها متحدثًا- مع شكري للجمعية ورئيسها بالطائف الزميل الدكتور: (علي بن ضميّان العنزي) وزملائه الكرام- تكلمت على تاريخ الإعلام بالطائف، وقلت: بأن الشعر العربي بفصيحه ونبطيه منذ الزمن القديم؛ كان منبرًا إعلاميًّا متقدمًّا، وصف الطائف وتغنّى بها، وقدّمها لمحبيها في الداخل والخارج. كان ذلك قبل ظهور الصحف، بل قبل بروز الإذاعة والتلفزة، وقبل إنشاء فروع للصحف السعودية بالطائف بدءًا من عام 1398هـ. ثم لمّا برزت هذه الوسائل الإعلامية وقتها من مسموعة ومرئية ومقروءة؛ احتفت كثيرًا بما هو مدوّن أو مرئي ومسموع عن الطائف نثرًا وشعرًا ولحنًا وغناءً، فأذاعته وأشهرته بين الناس.
* كانت الطائف حاضرة في الإعلام قبل أن يحضر إليها الإعلام، خدمها في كل ذلك بكل اقتدار؛ أربعة عوامل متضافرة هي: (الطبيعة، والتاريخ، والأدب، والفن). فقد فرضت الطائف نفسها كمكان وإنسان في الزمان عبر تاريخها الطويل. كان تاريخها الحضاري منذ ما قبل البعثة المحمدية، ثم من بعدها، رواية الأجداد والآباء لمن يأتي من بعدهم من الأبناء. وكانت طبيعتها الخلابة من شجر وحجر وهواء عليل، مهوى للعشاق، وبغية للمصطاف والمتربِّع، وكان الشعر الذي لازم كل معجب ومفتون بالطائف منذ عصرها الجاهلي حتى اليوم. نعم كل هذا كان، وفوق هذا كانت القصيدة الشعرية المغناة، التي تقلبت في دلال على ألسنة المغنين والمغنيات، وتبودلت في سرور وحبور، بين صفوف الملاعب في المجرور، ورددتها الحناجر في المجالسيات والحدريات والقصيمي وحيوما. كان بديوي الوقداني يرسم جغرافية الطائف في قصائده الشعرية الجزلة، فتأخذ طريقها إلى ألحان المجرور الطائفي، وإلى أوتار الملحنين والمغنين. كان ابن عباس -رضي الله عنهما- ومسجده التاريخي، وكانت المثناة وشهار وقروى والسلامة ومئات الأمكنة والمعالم التاريخية والجمالية ملهمة للشعراء، ومحرضة على الغناء، وشاهرة ذاتها لمن هو قريب أو بعيد. فهذا شاعر الطائف والحجاز بديوي الوقداني قبل قرنين ونصف من الزمان؛ ينطلق في نص خالد للمجرور الطائفي يقول:
مما بروحي مما شافت العين العشيّة
شافت عيوني الحمام الراعبي بالأوصاف
عند (ابن عباس) بين العصر والمغربية
* وحين نصل إلى عصر هذا الشاعر الفذ (بديوي الوقداني)؛ أو مئات الشعراء الذين تغنوا بالطائف من قبل ومن بعد؛ فنحن نتجاوز آخرين كثرًا من العصر الجاهلي حتى اليوم؛ لم يدعوا مَعلمًا جماليًا أو تاريخيًّا بالطائف؛ إلا خلدوه في أشعارهم الفصيحة والنبطية والمغناة. ففي كتابي الموسوعي: (الشوق الطائف حول قطر الطائف)؛ رصدت أكثر من ثمانية آلاف بيت شعري فصيح؛ لحوالي مئتين وستين شاعرًا وشاعرة، سعوديين وخليجيين وعربًا؛ كلها تذكر الطائف. تبرز معالمه ومظاهره وتتغنى بجمالياته. من يصدق أن قصيدة غنائية واحدة هي (يا ريم وادي ثقيف) للأمير الشاعر (عبد الله الفيصل) رحمه الله؛ يلحنها ويغنيها ابن الطائف (طارق عبد الحكيم) رحمه الله قبل سبعين عامًا، يغنيها من بعده أكثر من ثلاثين مغنيًا ومغنية، من السعودية والخليج واليمن والشام ومصر وتركيا وإسبانيا وأميركا..! أغنية واحدة تذكر واديًا واحدًا من أودية الطائف الشهيرة بلحن طائفي شجي؛ تشكل منبرًا إعلاميًّا للطائف، تعبر بها كل الحدود، وتعرّف بها وبجمالها وبألحانها وأغانيها؛ كما لم تفعل أي وسيلة إعلامية لا سابقة ولا لاحقة. قال أمير الكلمة ولحن وغنّى أمير العود:
يا ريم وادي ثقيف
لطيف جسمك لطيف
ما شفت أنا لك وصيف
في الناس شكلك غريب
* إذا قلت بأن الشعر الغنائي؛ وما صاحبه من ألحان طربية وشعبية تميزت بها الطائف منذ زمنها القديم؛ كان منبرًا إعلاميًا متقدمًا ولافتًا، قدم الطائف وشهرها قبل كل وسيلة إعلامية عرفناها فيما بعد؛ إذا قلت ذلك وأنا أقول اليوم؛ فإني لا أبالغ، في حين أني لا أقلل من الخدمة التي قدمتها الإذاعة والتلفزة والصحف الورقية بعد ظهورها، فقد أولت الطائف عنايتها واهتمامها وما زالت.
* ختامًا.. أحيي (جمعية الإعلاميين السعوديين) التي اعتنت بالطائف؛ فأسست بها فرعًا لخدمتها، كما أحيي (غرفة الطائف التجارية) ورئيسها الصديق د. سامي العبيدي؛ التي احتضنت الفرع في مقرها، وها نحن اليوم في الطائف المأنوس نفخر بمؤسستين كبيرتين، الأولى علمية أكاديمية هي (جامعة الطائف)، والثانية تجارية هي (الغرفة التجارية)، فالأولى تحتضن وترعى (مركز تاريخ الطائف)، والثانية تحتضن وترعى (فرع جمعية الإعلاميين السعوديين). ألم أقل لكم منذ البداية أننا في الطائف المأنوس والمأمون..؟!