رمضان جريدي العنزي
الماضي هو الوجه الأصيل للحياة، لهذا أحب سرديات الماضي، وأنجذب كثيراً لها، أحن له خيالاً وحلماً، وتستكين روحي معه، فيه حنين وشوق ولذة، هو الماضي يجيء حين يجيء محملاً بالصور الجميلة، والذكريات العابقة، وشذاها مثل بستان بهجة، يراقصني بود، وألتف حوله مثل حبل متين، أغرق فيه مثل سباح لا يجيد السباحة، عاشق أنا له، أتغرب طويلاً في صحرائه، وأتعفر جيداً بترابه ورمله، وأمشي بمهل بواديه وسهله، وأطرب كثيراً لحكاياته وقصصه وشعره، يا لصباحات كانت ومساءات، أذكرها مثل قصيدة شوق يرددها الحداة من على ظهور الجمال، حينما يعودون بعد حين طويل من السفر، صباحات مغمسة بالحب والبراءة، ومساءات عابقة بالود والالفة، يكتنفني دائماً الشوق إلى الأماكن الأولى، موقد النار، وفانوس الكاز، وخبز الصاج، والمهفة والحصير، ورائحة المطر حين ينساب من المزراب، هو الماضي رمانة القلب، وأرجوحة الحياة، وأمكنته مازالت لها طعم تحت لساني، مثل حلاوة العيد عندما كنت صغيراً، أحن لسيول الوادي الصغير، أحن لصوت الرعاة، وعشب الربيع، أحن لزقزقة العصافير، وللمرات الترابية الضيقة التي تمتد من أول القلب حتى آخر الفضاء، أحن لكل شيء كان، وأركض محموماً خلفه، مثل فراشة تحوم حول النور، هو الماضي يضيء في الهواجس، ويحيي في اللواعج، ليحيلني مثل عصفور مرح في روض فسيح، البارحة أخذني الماضي ليذكرني بعتبة البيت القديم، والسبورة السوداء والطبشورة، ثوبي الرمادي، ودفتري العتيق، رائحة البرتقال الشحيح والتميس، ماء الزير، والمدرس القاسي والعصا الغليظ، شمس الضحى، والهواء العليل، وتفاحة اشتهيتها وما لي فيها نصيب، وصديق رحل كان يضيء قلبي، وكان ظلي، وكيف كنا نمارس المشي ونحن حفاة، هو الماضي يمدني إليه مدناً، لأصبح واحداً من سرب السنونو يحلق كثيراً في الفضاء، ثم يهبط رويداً في أرض مطرزة بغرسها الجميل، هو الماضي أبجدية في قاع قلبي، وأيقونة باقية، كلما اندلع في قلبي الحنين، واحتشدت في دمي الأشواق، يممت راحلتي نحوه، ولوحت له بالبيرق ليجيئني على عجل، لأحدثه عن رؤاي التي عشتها معه، عن طيف حاولت إمساك ظله، عن مرايا، عن ضباب وسراب، عن رغبة في القلب أنكسرت، عن بيت شعر في مهب الريح صار عدماً، عن سوق (البطحاء)، عن مجرى سيلها والمصب، عن مطاحنها وصوت الباعة فيها قبولاً وعتباً، عن (عليشة) و(منفوحة) و(السليمانة) و(المطار القديم)، عن (المربع) و(المعذر) عن (شارع جريرعن (الفرزدق) و(أم الحمام) و(الملز) تلك الأمكنة مازالت عندي مثل الأقحوان بفصل الربيع، هي عمري وضجيجي وانفعالي وبسمتي وسروري وفرحي، صورها لا تفارقني مطلقاً، أغني معها بعض الهديل القليل، وأصبح بها كالياسمين الجميل، وفيها يجيء الكلام كأنه حرير، أو صفصافة مزروعة بالضلوع، أحن إليها كحنين الغريب لبيته، وكطل خفيف على ورقة ذابلة.