من الموضوعات التي أثارت الجدل في النَّقد الأدبي الحديث موضوع توجّه الأديب نحو العالميَّة أو اكتفائه بالكتابة في الحدود الوَطنيَّة القوميَّة، ويعود النِّقاش والاختلاف في هذا الرأي من مُنطلق الاعتقاد بأن هدف الأديب هو الخلود، ولا سبيل لذلك إلا بالغوص في العالميَّة التجريديَّة؛ ليُصبح جمهور الأديب عالميًّا يتجاوز كل الأزمنة والأمكنة.
إن حتمية الموت والانفصال عن الوجود والحياة من الأمور المُربكة والمُثيرة لقلق الأدباء وكلّ النَّاس على حدِّ سواء، ويقول فرويد في ذلك: «أننا في أعماقنا لا نعترف بأننا سنموت»، على الرغم من إيماننا بأن الحياة زائلة؛ إلا أن الطَّبيعة الإنسانيّة مُؤملة ومجبولة بحبِّ الحياة والتَّعلق بها، ومن هنا يلجأ الأدباء إلى فكرة الخلود عن طريق النتاج الأدبي.
وممَّا يُحقق الخلود للأديب أن يكون أدبه رسالة إنسانيَّة عالميَّة، يخرج بها من محيط الحدود الإقليمية للوطن إلى سِعة العالم بكل أعراقه وشعوبه، إذ يتناول فيه الأديب المعاني الكُليّة، ويُصوِّر أفكاره وقِيمه بصُورة عامّة لا تختصّ بوطنه وأُمَّته فقط، ولا تختلط بعواطفه الشخصية التابعة لإدراكه المحيط، والمتأثرة بعادات وتقاليد محيطه.
ويحرص الدُعاة إلى عالمية الأدب على ترسيخ مفهوم (الأدب التجريدي) باعتبار أنه يُخلِّص الأدب من الخدمات الإيديولوجية، ويسمو به إلى الإنسانيَّة بشكلٍ عام، ويُقصد بالأدب التجريدي «النفوذ عميقًا إلى حقائق الأشياء والاتجاه، وبقوة نحو الكليّ فيها، وتجاوز الشخوصيَّة والجزئية [...] هو الاعتماد على الثُّقل الشُّعوريّ والعمق الفكريّ والنُّفوذ في الوعيّ للعناصر الفنِّيّة»، ومن التيارات التي انتهجت هذا النوع من الأدب التيار الكلاسيكي، إذ اهتمّ أدباءه -لاسيما المسرحيون- بتصوير الحقيقة العامَّة في أدبهم بعيدًا عن العادات والتقاليد والأخلاق الاجتماعية، ومن هنا كان اشتغالهم على التحليل النَّفسيّ للشخصيات والكشف عن صراعها الباطنيّ الداخليّ.
وإنَّه ممَّا قد يُعين على انتشار هذه الفكرة وتسيّدها الانفتاح الحاصل الآن بين أقطاب الأرض قاطبة، وتلاقح الثَّقافات العالمية واندماجها وتأثيرها في فكر الأشخاص بنطاق كبير وغير محدود، فأصبح الفضاء الفكري يتخطى الحيز المكاني ويتطور إلى ثقافة مواطنة عالمية منفتحة، والأدب يتبع هذه الثقافة وهذا الانفتاح فيبدو اليوم وكأنه يتخطى النطاق الجغرافي والإيديولوجي منجذبًا نحو إنسانية عالمية حُرّة. إلا أنَّه ممَّا يُؤخذ على هذه الدعوة نتيجة انفصال الأديب عن ثقافته الوطنية الإقليمية، وقطيعته عن الفكر الاجتماعي نزوحًا إلى الإنسانية العالمية، فيبدو غريبًا بين بني جلدته جافيًا لثقافة محيطه، مُتعاليًا عن المسائل الخاصّة بوطنه، ولا مناص من القول بأنَّ اهتمام الأديب بالانتشار الإقليمي ادعى من الشُّهرة العالميَّة الخالدة، فإن لم يستطع تحقيقها على النطاق المحدود والمضمون؛ فمُستبعد حصوله على الذكر الخالد، لاسيما وأن المعاني العامَّة عالميًّا مُتفَقٌ عليها إلى حدٍّ كبير، والحديث عنها قد لا يُثير الانتباه والاهتمام بالقدر الكافي. إن على الأديب واجب تجاه مجتمعه، وتماسَّه مع قضايا المحيط أمر إنساني وطبيعة حتمية فقدانها يُحسب ضد عاطفة الأديب لا له، كما أن تجربة العمل الأدبيّ تحصل على تأثيرها متى اتَّحدت مع مشاعر الجمهور المتلقي وأثّرت في عاطفته، فاتحاد العمل الأدبي مع العاطفة والوعي الاجتماعي من أقوى عوامل نجاح الأدب وانتشاره وخلوده.
من هنا ينبغي على الأديب العمل أولًا على النطاق الإقليمي المحدود، والتوجّه نحو العصر الحاضر وقضاياه وفكره عواطفه، فإن لم يستطع الأديب التأثير في بني عصره؛ فأنى له ذلك مع جمهور عصور منقطعة عن عصره وبعيده عن زمانه؟! ومتى ما ترسخت أقدام شهرته في الحاضر الواقعي، تسنى له حينها التّوسع في أدبه نحو المعاني الإنسانية الكُبرى، والالتفات لقضايا العالم كلّها، والعمل على مستقبل منشود لخلود فنِّه.
** **
مشاعل عمر بن جحلان - ماجستير لغة عربية (أدب ونقد)