أثناء الحرب العالمية الأولى كان السباق محموما للتفوق العسكري التقني لضمان نصر طرف على آخر؛ لأجل ذلك حشدت الأطراف المتحاربة العقول العلمية النوبلية؛ ليتحول المختبر العلمي أثناء الحرب من أجل المساهمة في صنع منافع حضارية للبشرية إلى وسيلة لصنع ما يدمّر البشرية من أسلحة فتّاكة. استعان الفرنسيون بالنوبلي غرينيار [I](1871-1935م)؛ لتطوير أبحاثه في صنع الأسلحة الكيميائية. بينما على الطرف الآخر، الألمان استعانوا بالنوبلي فريتز هابر [II] ( 1868م - 1934م) الذي رأس وحدة تطوير الأسلحة الكيميائية. كان يرى بأن الشروع في استخدامها سينتج عنه كوارث مروعة ستذهلُ الطرفين وستُجبرهما على وقف النزاع لينعم السلام و الأمن بينهما؛ لكن بعد سنوات من رؤية هابر عادت البشرية أثناء الحرب العالمية الثانية لتشرع في تجارب الأسلحة النووية الأكثر فتكا من تلك الغازات السامة، كأنما حالة الرغبة في ضمان التفوق على الآخر أشبه بطبيعة بشرية أزلية استمرت مع الحرب الباردة إلى يومنا هذا مع سباق الذكاء الاصطناعي.
أوتو هان [III] ( 1879م -1968م) النوبلي الألماني وأول من شطر الذرة، عمل تحت إدارة هابر في وحدة الأسلحة الكيميائية أثناء الحرب العالمية الأولى، يكشف هذا الحوار القصير ملامح من عمله في تلك الوحدة، ذلك الحوار مع مرور الزمن أصبح أشبه بوثيقة تاريخية لمن عاش تلكم التجربة لتساعدنا في محاولة فهم تحول العقل العلمي أثناء الحرب؛ فإليكم ترجمة الحوار :
المقابلة التالية مع أوتو هان، العالِمُ الألماني الذي اكتشف الانشطار النووي عام 1938م. أوتو هان يتحدث عن عمله تحت إدارة هابر؛ لتطوير الأسلحة الكيميائية أثناء الحرب العالمية الأولى:
المُحاوِر: بروفيسور هان كيف تشرح حقيقة أنك الكيميائي العضوي والذي عمل في مجال الكيمياء الإشعاعية لأكثر من عقد، كُلِّف ليعمل في حرب الغازات السامة ؟!
بروفيسور هان: قبل كل شيء، المستشار الخاص هابر رأى إمكانية استخدام الكلور في حرب الغازات السامة والكلور يوجد في كل مختبر كيميائي، وأي كيميائي يعمل عليه أحيانا.
المُحاوِر: أخبرتنا بأنه كانت لديك هواجس حول المساعدة في تنظيم وحدة غازات الحرب السامة وتحدثتَ مع المستشار الخاص هابر بشأنها.
البروفيسور هان: عرفتُ أن اتفاقية لاهاي[IV] تحظر استخدام السم في الحرب؛ لكنني لم أعرف تفاصيل بنود تلك الاتفاقية. هابر أخبرني أن الفرنسيين قاموا بحشو أسلحتهم بالغاز، فذلك يعني أننا لم نكن وحدنا الذي نوى استخدامها في الحرب. شرح لي أيضا بأن استخدام الغاز هي أفضل طريقة سريعة لإنهاء الحرب.
المُحاوِر: وهل تلكم الحجج مقنعة بالنسبة لك ؟
البروفيسور هان: يمكن القول إن هابر طمأنني، كنت لا أزال ضد استخدام الغازات السامة؛ لكن بعد أن شرح المستشار الخاص الحالة أمامي وما كان على المحك، أصبحت مرنًا ثم رميت بنفسي في العمل بإخلاص. كما تعرف العديد من العلماء المعروفين وضعوا أنفسهم تحت تصرفه بما فيهم المستشار الخاص فيلشتاتر [V] وفيلاند [VI] وأصدقائي جيمس فرانك و جوستاف هيرتز [VII].
المُحاوِر: المهمة الأولى كما فهمت كانت إيجاد طريقة لاستخدام غاز الكلور في الهجوم، هل لديك أي معلومات حول إجراء مثل هذه التجارب من جانب العدو ؟
البروفيسور هان: لا أعرفُ أي شيء حول ذلك الأمر. في البداية الإنجليز تفاجأوا من تجاهلنا لاتفاقية لاهاي؛ لكن منذ عام 1916م وما بعده استخدموا على الأقل نفس الكمية من السم الذي استخدمناه. أثناء الحرب كانت هناك شائعة أن هابر قد اُعتبر مجرم حرب وسيُعتقل ليحاكم في المحكمة الدولية ليُحكم عليه بالإعدام. مع قرب نهاية الحرب أصبح متوترا جدا حول مصيره؛ لذا اختفى لفترة. عندما رأيتُه كان واضعا لحية كي لا يعرفه أحد بصورة مباشرة. لكن بعد نهاية الحرب لم تُتخذ أي خطوات ضده.
المُحاوِر: ولا ضد العلماء الآخرين، بما فيهم أنت ؟
البروفيسور هان: لا، ولا ضد أي أحد.
المُحاوِر: بعد كل هذا، هل تعتقد أنه يمكن للعدو أن يمنح الاحترام للمستشار الخاص هابر كعالم بارز نال امتنان الانسانية لعمله العظيم لأجل الحضارة ؟ أعني بأنه مع زميله العالم الألماني بوش [VIII] نجحا في تثبيت النيتروجين الجوي في صيغة الأمونيا للحصول على المواد الأولية المستخدمة في الأسمدة الصناعية؛ لذلك نال جائزة نوبل.
البروفيسور هان: بكل تأكيد كان يحظى باحترام كعالم بارز.
المُحاوِر: كان غالبا ما يُقال بأنه من دون تثبيت النيتروجين لهابر وبوش، ألمانيا لم تكن قادرة على الاستمرار في الحرب لمدة طويلة.
البروفيسور هان: يبدو الأمر كذلك، الأسمدة الصناعية كانت ضرورة ماسّة لجوع ألمانيا؛ لكن تثبيت النيتروجين كان مهما للزراعة حتى في وقت السلم ولا يزال كذلك حتى اليوم.
المُحاوِر: الآن، لنعد إلى دور هابر المحرّض في استخدام الغازات السامة، بعد الكلور قدّم الفوسجين [IX]، أليس كذلك ؟
البروفيسور هان مركب بسيط؛ لكنه شديد السميّة. حتى ذلك الوقت، لم يدرك أي أحد مدى سُميّته الاستثنائية، إنه أكثر سُميّة من حمض البروسيك. استنشاق جرعة واحدة منه مميتة، قمنا باختباره.
المُحاوِر: لا يسع المرء إلا أن يشعر بالذهول لأنك أنت ونخبة الكيميائيين الألمان جربتم بأنفسكم مثل هذه المواد الخطرة.
البروفيسور هان: لماذا ؟ تطوّعنا، قدّمنا خدمتنا. بكل تأكيد كنا نتوتر قليلا؛ لكن كنا متخصصين و مؤهلين بأفضل الطرق لتقدير المخاطر. في الحقيقة، أنا وفرانك فقط أجرينا التجارب لمعرفة المدة التي ستبقى فيها أقنعة الغاز المُصنعة حديثا فعالة ضد التركيزات العالية من الفوسجين.
المُحاوِر: أنت تعني جيمس فرانك الذي نال فيما بعد جائزة نوبل وتعاون مع علماء الذرّة الأمريكيين أثناء الحرب العالمية الثانية؟ لكنك أيضا عملت على الغازات السامّة الأخرى مثل: الصليب الأزرق، الصليب الأخضر، لم تُشر إلى ثالث غازات الخردل: الصليب الأصفر [X].
البروفيسور هان: كلّا، لم أعمل على غاز (الصليب الأصفر) إطلاقا. كان الأكثر بشاعة من بين الغازات السامّة كلها. ليس لدي أي خبرة فيه.
المُحاوِر: أخبرتنا بأنك رأيتَ مرارا بعينيك أثر الغازات السامة على الجنود الأعداء وذكرتَ بأن ما رأيتَهُ ترك أثرا عميقا فيك.
البروفيسور هان: نعم ذلك صحيح، شعرت بالذنب العميق. كنتُ قلقًا جدا. في البداية هاجمنا الجنود الروس ثم بعد ذلك عندما رأيت الرجال الضعفاء يتساقطون على الأرض ويموتون ببطء، حاولنا أن نجعل تنفسهم أسهل باستخدام أجهزتنا الخاصة للإنقاذ عليهم. لقد جعلتنا ندرك اللامبالاة المطلقة بالحرب. تَبذلُ قصارى جهدك للقضاء على الغريب الموجود هناك في خندق العدو، عندما تراه وجها لوجه لا يمكنك تحمّل رؤية ما فعلته وتحاول مساعدته؛ لكننا لم نتمكن من إنقاذ أولئك الضعفاء.
... ... ... ...
المصدر:
Otto Hahn: My Life. New York: Herder and Herder, 1968, p. 130-133.
الهوامش:
[I] فيكتور غرينيار (1871م- 1935م) عالم كيمياء فرنسي، نال نوبل عام 1912م مناصفة مع الفرنسي الكيميائي بول ساباتييه ( 1854م-1941م)؛ لاكتشاف الأول ما يسمى بكاشف غرينيار ساهم في تقدم الكيمياء العضوية؛ بينما الثاني لطريقته في هدرجة المركبات العضوية في وجود معادن مفككة ساهمت في تطور الكيمياء العضوية.
[II] فريتز هابر ( 1868م -1934م): عالم كيمياء ألماني، نال جائزة نوبل عام 1918م لابتكاره عملية تحضير الأمونيا المُستخدم في صناعة الأسمدة والمتفجرات وغيرها من الصناعات. عُرف بإدارته لوحدة الأسلحة الكيميائية وإسهامه في صناعة الغازات السامة أثناء الحرب العالمية الأولى.
[III] أوتو هان (1879م - 1968م): عالم كيمياء ألماني. نال درجة الدكتوراة في الكيمياء العضوية بجامعة ماربورغ عام 1901م. ذهب إلى لندن ليعمل تحت إدارة العالم الاسكتلندي السير ويليام رامسي مكتشف أهم الغازات النبيلة، ثم قضى فترة في جامعة مكغيل في مونتريال مع العالم النيوزيلندي إرنست رذرفورد مكتشف أشعة ألفا وبيتا. نال جائزة نوبل عام 1944م لاكتشافه انشطار الذرة في نهاية عام 1938م. أثناء الحرب العالمية الثانية اُختطف إلى إنجلترا مع عشرة علماء ألمان من قبل الحلفاء في عملية سرية عُرفت بـ(إبسيلون ) وحُجزوا في غودمانشستر بالقرب من كامبردج؛ لأجل التنصت عليهم ومعرفة مدى اقتراب النازيين من صنع قنبلة نووية. عُرف بعد نهاية الحرب بأنشطته ضد استخدام الأسلحة النووية.
[IV] تنصّ الفقرة (أ) من المادة الثالثة والعشرين من القسم الثاني المتعلق بالعمليات العدائية في اتفاقية لاهاي 1907م الخاصة بقوانين وأعراف الحرب البرية على : «يمنع بالخصوص استخدام السمّ أو الأسلحة السّامّة».
[V] ريتشارد مارتن فيلشتاتر (1872م-1942م): عالم كيمياء ألماني، نال جائزة نوبل عام 1915م لأبحاثه في صبغات النبات لاسيما الكلوروفيل.
[VI] هينريش فيلاند (1877م-1957م): عالم كيمياء ألماني، نال جائزة نوبل عام 1927م لأبحاثه في حمض الصفراء.
[VII] جيمس فرانك ( 1882م-1964م): عالم فيزياء ألماني، نال جائزة نوبل عام 1925م مع زميله الألماني جوستاف هيرتز ( 1887م-1975م)؛ لاكتشافهما القوانين التي تحكم تأثير الالكترون على الذرة.
[VIII] كارل بوش ( 1874م -1940م): عالم كيمياء ألماني، نال نوبل عام 1931م مع زميله الألماني فريدريش بيرغيوس ( 1884م-1949م)؛ عِرفانا لإسهامِهما في اختراع وتطوير طرق الضغط العالي الكيميائية.
[IX] الفوسجين: غاز عديم اللون، رائحته كريهة جدا، شديد السمية، اُستخدم في معركة إيبرس ضد الفرنسيين من قبل القوات الألمانية عام 1915م.
[X] الصليب الأزرق والصليب الأخضر والصليب الأصفر: وسوم وضعها الألمان على قذائف الغازات السامة التي اُستخدمت أثناء الحرب العالمية الأولى للتفريق بين أنواعها وعرف الصليب الأصفر بغاز الخردل السام.
** **
- ترجمة/ د. حمد الدريهم